{ ذّلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ . . . }
قلت : الريب : تحرُّك القلب واضطرابه بالشكوك والأوهام ، وتقابله الطمأنينة بالسكون إلى الحق على الدوام .
يقول الحقّ جلَ جلاله : يا أيها الرسول المصطفى والنبيّ المجتبى { ذَلِكَ الْكِتَابُ } الذي أنزلناه عليه من جبروت قدسنا وملكوت عزِّنا { لا رَيْبَ فِيهِ } أنه من عندنا . فمن ارتاب فيه ، أو نسبه إلى غيرنا ، فقد استحق البعد من ساحة رحمتنا ، وحلّت عليه شدائد نقمتنا ، ومن تحقق به أنه من لدنا ، وآمن بمن جاء به من عندنا ، فقد استحق دخول حضرة قدسنا حتى يسمع منا ويتكلم بنا ، فإذا أحببته كنت له ، فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يتكلم . . . الحديث . فيكون من الصديقين المقربين مع النبيين والمرسلين ، وكان في ذروة درجات المتقين ، الذين يهتدون بهدي القرآن المبين ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
{ . . . هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ } قلت : { هدى } خبر عن مبتدأ مضمر ، أو مبتدأ بتقديم الخبر . أي : هو هاد للمتقين ، أو فيه الهدى لهم . والهدى : هو الإرشاد والبيان ، ومعناه : الدلالة الموصلة إلى الحق . والمتقي : من جعل بينه وبين مقت الله وقاية ، وله ثلاث درجات :
- حفظ الجوارح من المخالفات ،
- وحفظ القلوب من المساوئ والهفوات ،
- وحفظ السرائر من الوقوف مع المحسوسات ،
فالأولى لمقام الإسلام ، وإليه توجه الخطاب بقوله : { فَاتَقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التّغَابُن : 16 ] ، والثانية لمقام الإيمان ، وإليه توجه الخطاب بقوله : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ المَائدة : 100 ] ، والثالثة لمقام الإحسان ، وإليه توجه الخطاب بقوله : { اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عِمرَان : 102 ] .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ذَلِكَ الكِتَابُ } الذي لا يقرب ساحتَه شكٍّ ولا ارتياب ، هو عين الهداية لأهل التقى من ذوي الألباب ، فلا يزالون يَتَرَقَّوْنَ به في المقامات والأحوال حتى يسمعوه من الكبير المتعال ، بلا واسطة تبليغ ولا إرسال ، قد انمحت في حقهم الرسوم والأشكال ، وهذه غاية الهداية ، وتحقيق سابق العناية .
قال جعفر الصادق : ( والله لقد تجلّى الله تعالى لخلقه في كلامه ولكن لا يشعرون ) .
وقال أيضاً - وقد سألوه عن حالة لحقَته في الصلاة حتى خرّ مغشيّاً عليه ، فلما سُرِّيَ عنه ، قيل له في ذلك فقال : ( ما زلت أرددت الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها ، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته ) .
فدرجات القراءة ثلاث :
أدناها : أن يقرأ العبد كانه يقرأ على الله تعالى واقفاً بين يديه ، وهو ناظر له ومستمع منه ، فيكون حاله السؤال والتملق والتضرّع والابتهال .
والثانية : أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يخاطبه بألفاظه ، ويناجيه بإنعامه وإحسانه ، فمقامه الحياء والتعظيم، والإصغاء والفهم.
والثالثة : أن يرى في الكلام المتكلم ، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته ، بل يكون فانيّا عن نفسه ، غائباً في شهود ربه ، لم يبق له عن نفسه إخبار ولا مع غير الله قرار .
فالأولى لأهل الفناء في الأفعال ، والثانية لأهل الفناء في الصفات ، والثالثة لأهل الفناء في شهود الذات ، رضي الله عنهم ، وحشرنا على منهاجهم . . . آمين .
تفسير ابن عجيبة