{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }
يقول الحق جلّ جلاله: { إِنا عرضنا الأمانةَ على السماواتِ والأرضِ والجبالِ } الأمانة هنا هي التوحيد في الباطن، والقيام بوظائف الدين في الظاهر، من الأوامر والنواهي، فالإيمان أمانة الباطن، والشريعة بأنواعها كلها أمانة الظاهر، فمَن قام بهاتين الخصلتين كان أميناً، وإلا كان خائناً. والمعنى: إنا عرضنا هذه الأمانة على هذه الأجرام العظام، ولها الثواب العظيم، إن أحسنت القيام بها، والعقاب الأليم إن خانت، فأبتْ وأشفقتْ واستعفتْ منها، مخافةَ ألاَّ تقدر عليها، فطلبت السلامة، ولا ثواب ولا عقاب. وهذا معنى قوله: { فأبَيْنَ أن يحْمِلنَها وأشفقنَ منها } فيحتمل أن يكون الإباء بإدراكٍ، خلقه الله فيها، وقيل: أحياها وأعقلها، كقوله:
{ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً }[فصلت: 11] ويحتمل أن يكون هذا العرض على أهلها من الملائكة والجن.
وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: وقد يقال: الأمانة هي ما أخذ عليهم من عهد التوحيد في الغيب بعد الإشهاد لربوبيته، وينظر لذلك قوله: " لن يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن " وأما حملها على التكاليف فلا يختص بالآدمي؛ لأن الجن أيضاً مكلف، ومناسبة الآية لِمَا قبلها: أن الوفاء بها من جملة التقوى المأمور بها. هـ.
وقيل: لم يقع عَرض حقيقةً، وإنما المقصود: تعظيم شأن الطاعة، وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء. والمعنى: أنها لعظمة شأنها لو عُرضت على هذه الأجرام العظام، وكانت ذا شعور وإدراك، لأبيْن أن يحمِلْنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، مع ضعف بنيته، ورخاوة قوته، لا جرم، فإن الراعي لها، والقائم بحقوقها، بخير الدارين. هـ. قاله البيضاوي. والمراد بالإباية: الاستعفاء، لا الاستكبار، أي: أشفقن منها فعفا عنهن وأعفاهن.
{ وحَمَلَها الإِنسانُ } أي: آدم. قيل: فما تمّ له يوم من تحملها حتى وقع في أمر الشجرة، وقيل: جنس الإنسان، وهذا يناسب حملَ الأمانة على العهد الذي أخذ على الأرواح في عالم الغيب. { إِنه كان ظلوماً جهولاً } حيث تعرض لهذا الخطر الكبير، ثم إن قام بها ورعاها حق رعايتها خرج من الظلم والجهل، وكان صالحاً أميناً عدولاً، وإن خانها ولم يقم بها، كان ظلوماً جهولاً، كلٌّ على قدر خيانته وظُلمه، فالكفار خانوا أصل الأمانة، وهي الإيمان فكفروا، ومن دونهم خانوا بارتكاب المناهي أو ترك الطاعة، فبعضهم أشد، وبعضهم أهون، وكل واحد عقوبته على قدر خيانته.
* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة