{ فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }
الذكر استغراق الذاكر في شهود المذكور، ثم استهلاكه في وجود المذكور، حتى لا يبقى منك أثر يذكر، فيقال قد كان مرةً فلان.
{ فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } أي كونوا مستهلكين في وجودنا، نذكركم بعد فنائكم عنكم.
وطريقة أهل العبارة { فَٱذْكُرُونِيۤ } بالموافقات { أَذْكُرْكُمْ } بالكرامات، وطريقة أهل الإشارة { فَٱذْكُرُونِيۤ } بِتَرْكِ كل حظ { أَذْكُرْكُمْ } بأن أقيمكم بحقي بعد فنائكم عنكم.
أو فاذكروني بالجَنَانِ أذكركم بنعمة الشهود والعيان، أو فاذكروني بالقلوب أذكركم بكشف الحجب، أو فاذكروني بالتوحيد والإيمان أذكركم بالدرجات في الجنان. قال الصِّديق رضي الله عنه: (كفَى بالتوحيدِ عبَادةً، وكَفَى بالجنةِ ثَواباً). أو فاذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة، أو فاذكروني على ظهر الأرض أذكركم في بطنها: قال الأصمعي: (رأيت أعرابيّاً واقفاً يوم عرفة بعرفات، وهو يقول: إلهي عَجَّتْ لكَ الأصْواتُ بضُروب اللغات يسألونك الحَاجَات، وحاجَتي إليكَ أنْ تَذْكُرني عندَ البلاَءِ إذا نَسِيَني أهلُ الدنيا).
وقال بعض العراقيين فى قوله: { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } قال: لك نسيبة من الحق يتحمل بها الموارد وهو ذكره إياك، فلولا ذكره إياك ما ذكرته. وقيل: اذكرونى بجهدكم وطاقتكم لأقرن ذكركم بذكرى فيتحقق لكم الذكر.
أو: فاذكروني في الدنيا أذكركم في العقبى، أو: فاذكروني بالطاعات أذكركم بالمعافاة، يعني يحييه حياة طيبة. أو: فاذكروني في الخلاء والملأ أذكركم في أفضل الملأ، دليله الحديث: " أنا عِندَ ظنِّ عبدي بي فليُظنَّ بي مَا شاء، وأنا معه إذا ذكَرني، فمن ذَكَرَنيِ في نَفْسِه ذَكَرْتُه في نَفْسِي. ومن ذَكَرَنِي في مَلأ ذَكرْتُه في مَلأ خير من مَلَئِهِ... " الحديث.
ثمرته الفناء في الذات، وهي الغاية والمنتهى.
كما أنعم الله على الأمة المحمدية بأن بعث فيهم رسولاً منهم يعلمهم الشرعية النبوية، ويطهرهم من شهود الغيرية، ويعلمهم العلوم اللدنية، كذلك منَّ الله تعالى على عباده من هذه الأمة في كل زمان، ببعث شيوخ التربية يطهرون الناس بالذكر من العيوب، ويدخلونهم حضرة الغيوب، ويطلعونهم على شهود القدرة الأزلية والحكمة الإلهية، ويعلمهم من غرائب العلوم، ويفتح لهم مخازن الفهوم، فَيَطَّلعون على السر المصون، ويعلمون ما لم يكونوا يعلمون.