أصل جميع الآفات المتقدمة، المتعلقة بالجوارح أو بالقلب، إنما سبب الوقوع فيها هو حب الرئاسة في الدنيا، فهي أصل كل المفاسد والعيوب، لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يولي أمور الدنيا من له تعلق بها؛ روى البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال:
دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمِّرنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله، فقال: إنا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه”[1]،
قال ابن حجر في فتح الباري بأن حِرص الناس على حب الرئاسة في الدنيا “هو السبب في اقتتال الناس عليها حتى سفكت الدماء واستبيحت الأموال والفروج وعظم الفساد في الأرض”[2].
إن حب الرئاسة وعبادة المقام تمثل عناصر خطيرة في انحراف السلوك وتخريب الإيمان في أعماق النفس، فليس من مقاصد السلوك إلى الله: الشهرة والزعامة، بل مقتضى السلوك هو التواضع والتذلل في باب الله واطراح حب الرئاسة، ومن ثمّ فالكفاءة العلمية أو العملية ليست كافية في تولي المناصب وطلبها، لأن هذه الكفاءات ليست لازمة لصلاح النفس.
وعند مسلم في صحيحه أن أبا ذر قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها”[3]. فهذا أبو ذر الصحابي الجليل المخلص لدين الله ورسوله عليه الصلاة والسلام تُمنع عنه الولاية، ليس لشك في إخلاصه وولائه، ولكن لضُعفٍ فيه دفعه إلى طلب الرئاسة، فمنعته مقتضيات التربية النبوية من ذلك. قال النووي شارحا الحديث: "لكثرة الخطر فيها حذره صلى الله عليه وسلم منها"، وقال: "الخزي والندامة هو حق من لم يكن أهلا لها"، وإن الأهلية لا تكتمل إلا في من جمع بين صلاح الظاهر بالعلم والعمل، وبين صلاح الباطن بالتقوى والإخلاص.
فالنفس البشرية تحن إلى حب الرئاسة وتتشوف إليها، والسالك إلى الله تعالى يجتهد ويشمر في سيره وسلوكه حتى يصبح عبدا محضا خاضعا لمولاه، لا يريد بذلك علوا في الأرض ولا فسادا، وإنما غايته القصوى وجه الله جل في علاه والدار الآخرة.
وإن من مستلزمات التعلق بالدنيا وحب الرئاسة فيها: الإعراض عن الآخرة؛ قال تعالى: “كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَة وَتَذَرُونَ الاَخِرَةَ” [القيامة، 19-20]
قال مولاي عبد القادر الجيلاني: "طلبت الدخول على الله فوجدت الأبواب كلها مسدودة إلا باب الذل فوجدته مفتوحا فدخلت منه والحمد لله"[4].
قال سيدي ابن عليوة المستغانمي: "لا يذوق حلاوة المناجاة مَن بقِيَت فيه بقية من حب الرياسة، والوصول مقرون بالتذلل"[5].
ليس معنى هذا أن السالك إلى الله تعالى لا يتولى الرئاسة ولا يهتم بشؤون الدنيا، بل مقتضى السلوك إلى الله هو عدم التعلق بها والالتفات إليها، عِلما بأن السالك يأخذ بالأسباب مع إفراد الله بالقصد، لذلك فهو يعمل بالحكمة الصوفية العطائية التي تقول: “لا تكن عبدا للظهور، ولا تكن عبدا للخفاء، وإنما كن عبدا لله، مقامك حيث أقامك”.
الهوامش
د. إسماعيل راضي