{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
الإشارة
وقوله تعالى: { إِنما المؤمنون إخوة } قال الورتجبي: افهَم أيها العاقل أن الله سبحانه خلق الأرواحَ المقدسةَ من عالَم الملكوت، وألبسها أنوارَ الجبروت؛ فمواردُها من قُربه مختلفة، لكن عينها واحدة، وخلق هياكلَها وأشباحَها من تربة الأرض التي أخلصها من جملتها، وزيّنها بنور قدرته، ونفخ فيها تلك الأرواح، وجعل من الأرواح والأجسام النفوس الأمّارة التي ليست من قبيل الأرواح، ولا من قبيل الأجسام، وجعلها مخالفة للأرواح ومساكِنها، فأرسل الله عليها جندَ العقول، يدفع شَرَّها، فإذا امتحن الله عبادَه المؤمنين هيَّج نفوسهم الأمّارة؛ ليُظهر حقائق درجاتهم من الإيمان، فأَمَرهم أن يُعينوا العقلَ والروحَ والقلبَ على النفس حتى تنهزم؛ لأن المؤمنين كالبنيان يشُد بعضُهم بعضاً.
ثم بيَّن أنّ في الإصلاح بين الإخوان الفلاح والنجاة، إذا كان مقروناً بالتقوى التي تقدسُ البواطن من البغي والحسد بقوله: { واتقوا الله لعلكم تُرحمون } فإذا فهِمت ما ذكرتُ علمتَ أنْ حقيقة الأخوة مصدر الاتحاد، فإنهم كنفسٍ واحدة؛ لأن مصادرهم مصدر واحد، وهو آدم، ومصدر روح آدم نورُ الملكوت، ومصدرُ جسمه تربة الجنة في بعض الأقوال. لذلك يصعد الروحُ إلى الملكوت، والجسم إلى الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: " كل شيء يرجع إلى أصل " هـ. قلت: صعود الروح إلى الملكوت هو شهود معاني الأسرار في دار الجنة، ونزول الجسم إلى الجنة هو تمتُّعه بنعيم حسها في عالم الأشباح، وكل ذلك بعد الموت، وأحسنُ العبارة أن يُقال: لأن مصادرَهم مصدر واحد، وهو بحر الجبروت، المتدفق بأنوار الملكوت، والوجود بأَسْره موجةٌ من بحر الجبروت.
ثم قال الورتجبي: قال أبو بكر النقاش: سألتُ الجنيد عن الأخ الحقيقي؟ فقال: هو أنت في الحقيقة، غير أنه غيرك في الهيكل. قلت: يعني أن الناس في الحقيقة ذاتٌ واحدة، وما افترقوا إلا في الهياكل، فكلهم أخوة. وقال أبو عثمان الحيري: أُخُوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوة النسب تُقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تقطع بمخالفة النسب. هـ. وتقدم لنا شروط الأخوة في قوله تعالى:{ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذ... }[الزخرف: 67] الآية.
وقال القشيري هنا: ومن حق الأخوة ألا تُلجأه إلى الاعتذار، بل تُبسط عذرَه أي: تذكر عذره قبل أن يعتذر، فإن أُشكل عليك وجهه عُدت بالملامة على نفسك في خفاء عذره عليك، وتتوب عليه إذا أذنب، وتعوده إذا مرض، وإذا أشار عليك بشيء فلا تطالبه بالدليل وإيراد الحجة، كما أنشدوا:
إِذا اسْتُنْجِدُوا لَمْ يَسأَلُوا مَنْ دَعَاهُم
لأيَّةِ حَرْبٍ أم لأيِّ مكَان
ومن أَوْكد شروطها: التعظيم، كما أبان ذلك بقوله تعالى:{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ}.
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة