ومن كلام الشيخ أبي مدين رضي الله عنه:" دليل تخليطك صحبتك للمخلطين، ودليل انقطاعك إلى الله صحبتك للمنقطعين"ـ. في سماع العتبية: قال مالك: لا تصحبْ فاجراً لئلا تتعلَّم من فجور، قال ابن رُشد: لا ينبغي أن يُصحب إلا مَن يُقتدى به في دينه وخيره؛ لأن قرين السوء يُردي، قال الحكيم:
عَن المرْءِ لا تَسْأَلْ وسَلْ عن قَرِينه
فَكُلُّ قَرِينِ بالمُقارِنِ مُقْتَد
وفي الحديث: " المَرْءُ على دينِ خَليله " وسيأتي، في الإشارة بقية الكلام على المتحابين في الله.
الإشارة: كل خُلة وصحبة تنقطع يوم القيامة، إلاَّ خُلة المتحابين في الله، وهم الذين ورد في الحديث: أنهم يكونون في ظل العرش، والناس في حر الشمس، يغشى نورُهم الناسَ في المحشر، يغبطهم النبيون والشهداء لمنزلتهم عند الله. قيل: يا رسول الله، مَن هؤلاءِ؟ صفهم لنا لنعرفهم، قال: " رجالٌ من قبائلَ شتى، يجتمعون على ذكر الله ".
وقد ورد فيهم أحاديث، منها: حديث الموطأ، عن معاذ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: " وَجَبَتْ محَبتِّي للمُتَحَابِّين فِيَّ، والمُتَجالِسينَ فيّ، والمُتبَاذِلينَ فِيّ، والمُتَزَاوِرينَ فِيّ " ، وفي رواية أبي مُسلم الخولاني: قال صلى الله عليه وسلم:" المتحابُّون في الله على مَنَابرَ من نورٍ، في ظِلِّ العرشِ، يوم لا ظِلَّ إِلا ظِلُّه " ، وفي حديث آخر: " ما تحابّ اثنان في الله إلا وُضِعَ لهما كُرسِيّاً، فيجلِسَانِ عليه حتى يَفْرغَ من الحساب " .
وقال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ المُتَحَابِّين في الله لَتَرى غُرفَهُم في الجنة كالكوكب الطَّالِعِ الشَّرقِي أو الغربي، فيقال: مَن هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المُتَحَابُّونَ في الله عزّ وجل ". وفي رواية: " إنّ في الجنة غُرَفاً يُرى ظواهِرُها مِن بَوَاطِنِها، وبَواطِنُها من ظَواهرها، أعدَّها الله للمُتحابِّين في الله، والمُتَزَاورِينَ فيه، والمُتباذِلين فيه "
وفي لفظ آخر: " إنَّ في الجنة لعُمُداً من ياقوتٍ، عليها غُرَفٌ من زَبَرْجد، لها أبواب مُفَتَّحَةٌ؛ تُضيء كما يُضيء الكوكب الدُّرِّي، قلنا: يا رسول الله، مَن يَسْكُنُها؟ قال: المتحابُّون في الله، والمتباذِلُون في الله، والمتلاقون في الله، مكتوب على وجوههم، هؤلاء المتحابون في الله " وفي الأثر أيضاً:" إذا كان يوم القيامة: نادى منادٍ: أين المتحابون في الله؟ فيقوم ناس - وهم يسير - فَيَنْطَلِقُون إلى الجَنَّ سِرَاعاً، فَتَتَلقَّاهم الملائكة: فيقولون: رأيناكم سِراعاً إلى الجنة، فمَن أنتم؟ فيقولون: نحن المتَحَابُّون في الله؛ فيقولون: وما كان تحابُّكُم؟ فيقولون: كنَّا نتحاب في الله؛ ونتزاورُ في الله، ونتعاطف في الله، ونتباذل في الله، فيُقال لهم: ادخلوا الجنة، فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين ". من البدور السافرة. والتباذل: المواساة بالبذل.
وذكر في الإحياء شروط المتحابين في الله، فقال رضي الله عنه: اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين، كعقد النكاح بين الزوجين، ثم قال: فَلأخيك عليك حق في المال، وفي النفس، وفي اللسان، وفي القلب. وبالعقو، وبالدعاء، وذلك تجمعه ثمانية حقوق.
الحق الأول: في المال بالمواساة، وذلك على ثلاثة مراتب؛ أدناها: أن تُنزله منزلة عبدك وخادمك، فتقوم بحاجاته بفضله مالك، فإذا سنحت له حاجة، وعندك فضلة أعطيته ابتداءً، فإذا أحوجته إلى سؤال فهو غاية التقصير. الثانية: أن تنزله منزلة نفسك، وترضى بمشاركته إياك في مالك، فتسمح له في مشاركته. الثالثة - وهي العليا -: أن تؤثره على نفسك، وتقدم حاجته على حاجتك، وهي رتبة الصدّيقين، ومنتهى درجات المتحابين.
الحق الثاني: الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات، والقيام بها قبل السؤال، وهذا أيضاً لها درجات كالمواساة، فأدناها: القيام بالحاجة عند السؤال، ولكن مع البشاشة والاستبشار، وإظهار الفرح. وأوسطها: أن تجعل حاجته كحاجتك، فتكون متفقداً لحاجته، غير غافل عن أحواله، كما لا تغفل عن أحوال نفسك، وتغنيه عن السؤال. وأعلاها: أن تؤثره على نفسك، وتقدم حاجته على حاجتك، وتؤثره على نفسك، وأقاربك، وأولادك. كان الحسن يقول: إخواننا أحبُّ إلينا من أهلينا وأولادنا؛ لأن أهلينا يذكروننا الدنيا، وإخواننا يذكروننا في الآخرة.
الحق الثالث: على اللسان بالسكوت، فيسكت عن التجسُّس، والسؤال عن أحواله، وإذا رآه في طرقه فلا يسأله عن غرضه وحاجته، فربما يثقل عليه، أو يحتاج إلى أن يكذب، ويسكت عن أسراره التي بثها إليه، فلا يبثها إلى غيره، ولا إلى أخص أصدقائه، ولا يكشف شيئاً منها ولو بعد القطيعة، وليسكن عن مماراته ومدافعته في كلامه.