{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ }
جرَّده عن أوصاف البشرية، وأفرده بما ألبسه من نعت الربوبية، وأخبر أن ما يلوح إليه فمن أنوار التولي، لا من آثار الوفاق والتبري، ولولا أنه استخلقه بما ألبسه وإلا متى كان بتلك الصفة؟!
ويقال إن من خصائص رحمته - سبحانه - عليه أنْ قَوّاه حتى صَحِبَهُم، وصبر على تبليغ الرسالة إليهم، وعلى ما كان يقاسيه من اختلافهم - مع سلطان ما كان مستغرقاً له ولجميع أوقاته من استيلاء الحق عليه، فلولا قوة إلهية استأثره الحق بها وإلا متى أطلق صحبتهم؟!
ألا ترى إلى موسى عليه السلام لما كان قريب العهد بسماع كلامه كيف لم يصبر على مخاطبة أخيه فأخذ برأس أخيه يجرُّه إليه؟
ويقال لولا أنه صلى الله عليه وسلم شاهدهم محواً فيما كان يَجْرِي عليهم من أحكام التصريف، وتحقَّق أن منشئها الله - لما أطاق صحبتهم.
قوله تعالى: { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ }: لو سَقْيتَهم صِرْفَ شراب التوحيدِ غيرَ ممزوجٍ بما فيه لهم حظٌّ لتفرقوا عنك، هائمين على وجوههم، غير مطيقين للوقوف لحظةً، { فَٱعْفُ عَنْهُمْ } فيما يكون تقصيراً منهم في حقك وتوقيرك، وما عثرت عليه مِنْ تفريطهم في خدمتنا وطاعتنا - فانتصِبْ لهم شفيعاً إلينا.
ويقال: { فَٱعْفُ عَنْهُمْ } فاعف - أنت - عنهم فإن حكمك حكمُنا، فأنت لا تعفو إلا وقد عَفَوْنا، ثم ردَّه عن هذه الصفة بما أثبته في مقام العبودية، ونقله إلى وصف التفرقة فقال: ثم قِفْ في محل التذلل مبتهلاً إلينا في استغفارهم. وكذا سُنَّتُه - سبحانه - مع أنبيائه عليهم السلام وأوليائه، يردُّهم مِنْ جمعٍ إلى فرقٍ ومن فَرْقٍ إلى جمع، فقوله: { فَٱعْفُ عَنْهُمْ } جمع، وقوله: { وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ } فرق.
ويقال: { فَٱعْفُ عَنْهُمْ } وتجاوز عنهم في حقوقك، ولا تكتفِ بذلك ما لم تستغفِرْ لهم إكمالاً للكرم؛ ولهذا كان يقول: " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ".
ويقال ما يُقصِّرون في حقِّك تعلَّق به حقَّان: حقك وحقي، فإذا عفوتَ أنت فلا يكفي هذا القَدْرُ بل إنْ لَمْ أتجاوز عنهم في حقي كانوا مستوجبين للعقوبة؛ فمن أرضى خصمَه لا يَنْجَبِر حالُه ما لم يغفر الله له فيما ترك من أمره.
وقوله: { وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمر } أي أثْبِتْ لهم محلاً؛ فإنَّ المعفوَ عنه في صدار الخجلة لا يرى لنفسه مقام الكَرامة، فإذا شاورتَهم أزَلْت عنهم انكسارهم، وطيَّبْتَ لهم قلوبهم.
ويقال تجَنَّسوا في أحوالهم: فَمِنْ مُقَصِّر في حقه أُمِرَ بالعفو عنه، ومن مرتكب لذنوبه أُمِرَ بالاستغفار له، ومن مطيعٍ غير مقصرٍ أُمِرَ بمشاورته.
ثم قال: { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } أي لا تتكل على رأي مخلوق وكِلْ الأمور إليّ، فإنا لا نخليك عن تصريف القبض بحالٍ.
وحقيقة التوكل شهود التقدير، واستراحة القلوب عن كد التدبير.
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ } يذيقهم بَرْدَ الكفاية ليزول عنهم كل لغبٍ ونَصَبٍ، وإنه يعامل كلاً بما يستوجبه؛ فقومٌ يغنيهم - عند توكلهم - بعطائه، وآخرون يكفيهم - عند توكلهم - بلقائه، وقوم يرضيهم في عموم أحوالهم حتى يكتفون ببقائه، ويقفون معه به له - على تلوينات قَدَرِه وقضائه.