حقيقة الولي وعلامته
الأولياء هم الذين تولى الله أمرهم بالكليّة ، فتصبح إرادة الله إرادتهم ، بعد أن تنزع منهم الإرادة البشرية ، فتكون حركاتهم وسكناتهم بإرادته ومن أجله ، فلا يقولون إلاّ به ، ولا يملون إلا باذنه ، كعبودية تستمدّ وجودها وتوفيقها من الربوبية ، كما تجلّى في في عبودية العبد الصالح ، الذي تولّى الله أمره بالكلية ، وكان من علوّ مقامه أن تلمّذ نبيّ الله موسى على يده ، وقد أفاض عليه تعالى من توفيقه وهدايته ، وسرّ ربوبيته ، ما جعله يقول :" وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي".
ولن تكون حركاتهم وسكناتهم في ظواهرهم وبواطنهم إلاّ بإرادة الله ، وتستمد عبوديتهم وجودها وتتوفيقها من سرّربوبيته ، حتى يفنوا عن وجودهم المادّي ، ويخرجون بأرواحهم من الكثافة الماديّة ، ومن ظلمة الغفلة التي تعمي البصيرة ، فيكون الله سمعهم الذي يسمعون به ، وبصرهم الذي ينظرون به ، ويدهم التي يبطشون بها ، ورجلهم التي يمشون بها... ومن كان لله بالكينونة والواقع ، لا بالعقل والنظر.. كان الله له بالتّولية والرعاية ، ومن لم يكن على صفتهم ، ولم يعط له ما أعطي لهم من المقامات ، فخير له أن يطوي رأسه تحت جناحه ، ويرى نفسه بين عامّة النّاس ، ويلتمس صحبة من كانت تلك صفتهم ، علّ الله يلحقه بمقامهم ، ويدخله مدخلهم.. ومن أعجب بعقله ، واستغنى بنتائج فكره عن طلب حقيقة لم يحجم نبي الله موسى عليه السلام عن طلبها ، فالبحث في الموضوع لا يعنيه ، وصدق الله العظيم ، اذ يقول :{ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـٰؤُلاۤءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ...}.(8)
ويكفي ميزة واعتبارا للأولياء ، وخزيا وعارا لخصومهم ، أنّ الله أعلن الحرب على من يعاديهم ، والله لم يعلن الحرب إلاّ على المرابين ، كما في قوله تعالى :{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } * { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }.(9) أو على المعادين للأولياء ، كما في الحديث القدسي من رواية البخاري :عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ:
(مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ...الخ )
ويبدو ما بين القرآن والحديث القدسيّ أن هناك ولاية عامّة ، وهي ولاية المؤمنين المتّقين ، كما دلّ عليه قوله تعالى :{ أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ }(10) ولاية خاصة ، وهي التي يحارب فيها الله من عادا له وليّا ، على اعتبار أن المعادي يكون من بين المسلمين ، وأمّا الكفّار فيعادون الجميع ، والوليّ الذي يحارب الله من عاداه ، قد لا يكون إلاّ من العارفين به ، كما حكى القرآن على الملعون : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } * { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } (11) وكان جواب الحقّ في آية أخرى :{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } والتعبير السائد أن الأنبياء معصومون ، والأولياء محفوظون ، وقد قيل للجنيد : هل يزني العارف ؟ فقال : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا } يعني أنه غير معصوم ، كما أن الصحابة غير معصومين ، وإنما المعصوم هو الرسول صلى الله عليه وسلم وحده.
وقد ركّز الامام الشاطبي في "الاعتصام" أمر الولاية الخاصة وابن تيمية أكثر جرءة من الصوفية في رواية وإثبات ما هو حق ، والصوفية الحقيقيّون - كما سيأتي - لم يختلفوا هنا في إثبات الحق ، وإبطال الباطل.. إلّا أن الامام الشاطبي لو عاش في عصرنا ، الذي اختلط فيه الحابل بالنابل ، والحق بالباطل ، وغلبت العقلانيّة على الفطرة ، والشك عل التّصديق ، ولبست الشّعودة لباس الحقيقة الغيبيّة ، وحجبت شمس الأولياء الحقيقيّين بغمام المدّعين والمشعودين والمضلّلين... لاقترح عدم العمل بما أثبته ، وإن كان حقا. وهو ما منعه كبار الصوفية ، واخترناه سدّا للذريعة ، وتقديما دفع المضرة على جلب المصلحة ، خاصّة أن الاولياء الحقيقيّين يدفنون أنفسهم في أرض العبودية لله ، وعن طريق الذكر واتصال الأرواح.
والقاعدة عند أصحاب الحقيقة وفي موضوعها أن من قال في حالة الصّحو : أنا هو فليس بأنّه هو.. وتعابير أنا هو.. وعندي.. وأعرف.. وأطّلع.. وأرى.. وأكشف.. وأتصرّف.. من صفات المدّعين للحقيقة ، وليست من صفات الكمّال من أصحابها . والله خاطب نبيّه بقوله : {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (12) الاحقاف. ووجود أصحاب الحقيقة في المجتمع يشبه وجود الماء تحت الأرض ، وبما أن الماء لا يتحقّق من وجوده قبل الحفر ، فالتحقّق من حقيقة الوليّ لا يتمّ قبل الصّحبة والذكر واتصال الأرواح. ولعلّ ذلك ما يريده الامام الغزالي في الجانب البشريّ ، وليس في الجانب الالهيّ ، إذ يقول : " الشكّ مبدأ اليقين " ذلك أن الشكّ في وجود الشيء هو الدّافع إلى العمل من أجل التّيقّن من وجود أو لا وجود ، وبالنتيجة -إيجابية أم كانت سلبية- ينتهي الشكّ إلى مبدأ اليقين . و أكبر معيار في الميدان الصوفي هو الشّرع ، وأقوى حفّار في ميدان البحث عن الحقيقة الغيبيّة هو القلب ، وأغلظ حجاب من حجوب الغفلة هو العقل الجاحد.. ونحن هنا لا نقول عن فكر ونظر ، وإنما عن تجربة عمليّة شرعيّة روحيّة...
وفي الإمكان أن نضرب مثلا حسيّا لحال الكمّال الكاتمين لسرّ الله وحال المدّعين القوّالين ، بحال الماء فوق النّار ، يسمع له أزيز وصوت ، قبل أن يطبخ ، فاذا طبخ هدأ الأزير والصوت ، وتهيأ لاصلاح القهوة والشاي ، كما تتهيّأ الحقيقة الإلهيّة ، والتربية الروحية الملهمة الصامتة لإصلاح القلوب و الأحوال ، وفي حال الأزيز والصوت الدّال على عدم طبخه يفسدهما ، كما تفسد الدّعوى والشّعودة الشرع والمزاج والأخلاق { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} (13) وقد احتج الامام ابن تيميّة بقول الصّفي سهل بن عبد الله :" لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ أَغْلَظُ مِنَ الدَّعْوَى وَلَا طَرِيقٌ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الافْتِقَارِ ، وأصل كلّ خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله "(14).
وقد ركّز الإمام الشاطبي حقيقة الولاية على الأمر الباطني ، وتخوّف -كما تخوّفنا- من اختلاط أمرها بعمل المبطلين ،فقال : "ولأن الولاية ؛ وإن ظهر لها في الظاهر آثار ؛ فقد يخفى أمرها ؛ لأنها في الحقيقة راجعة إلى أمر باطن لا يعلمه إلا الله ، فربما ادعيت الولاية لمن ليس بولي ، أو ادعاها هو لنفسه ، أو أظهر خارقة من خوارق العادات هي من باب الشعوذة لا من باب الكرامة".(15).
إن الكرامة والمكاشفة والتجليّة والمشاهدة والأسرار والأنوار والأحوال الربّانية... الخارجة عن الذّات العالية والمعروفة للذّاكرين الصّادقين المخلصين ، من أصحاب القلوب الطيّبة الطّاهرين ، تقع للمريدين في طريق الوصول الى الحقيقة ، تشجيعا للسّالكين قدما نحو الملأ الأعلى ، كي يتيقّنوا أنهم في في طريق الحقّ ، ولا تدلّ عل الولاية الخاصّة التي من شأن الكمّال : كمال الشريعة وكمال الحقيقة ، وصاحبها ينعث بالعارف الواصل الموصّل ، وتعرف وتكتشف عن طريق الصحبة والذكر واتصال الأرواح ، والاندماج بين القويّ منها والضعيفة ، أو بين الملهمة وغير الملهمة.
وأما المدّعي أو المشعود ، المخالف للكتاب والسنّة فإنه لم يسلك طريق الحقّ وليس لديه ما يكتشف الاّ الظلام ، إن ادّعى الولاية أو ادّعيت له جهلا بحاله ، وتشبّه بشيوخ التربيّة ، بغية الظهور عن غير حقّ ، هِينَ عند الامتحان وافتضح أمره ، وصدق فيه ما قيل في متفقّه يدّعي العلم ، ويتشبّه بالعلماء ، ويلبس لباسهم ، فيضع الطربوش تحت عمامته ، والسلهام على كتفه ، ومدّعي العلم يساوي - في التزييف - مدّعي الولاية ، فكان من شاعر أن قال في المتفقّه المدّعي للعلم :
يا مَن تَطَرْبشَ واحْتَبى يَبْغي التّشبّه بالظّبَا
أَلْقِرْدُ أَقبَحُ مَا يُرَى إذا تَطَرْبَشَ واحْتَبى
وماذا يعني ضرب المثل لمدّعي العلم - ويسري على مدّعي الولاية - بالقرد الممسوخ ؟ فهل المسخ ظاهريّ ، أم ظاهريّ وباطنيّ ؟ كثير من النّاس يكثرون الحديث عن مسخ أجسام القردة على براءتها ، ولا يتحدّثون قليلا عن مسخ قلوب الفسقة والسّحرة والمشعودين والمضلّلين... وهو لخفائه خفاء الأفاعي في الهشيم اشدّ ضررا على الأفراد والمجتمعات ، كما يتحدّثون عن المجرمين قانونيا ، ولا يتحدّثون عن هؤلاء المجرمين أخلاقيا واجتماعيا ، فكان من اللّائق أن لا نذكر المدّعي بجانب الوليّ احتراما لمقامه ، لولا ما يفرضه البحث من فرز الأوراق بين الحقّ والباطل.
إن الوليّ الحقيقيّ لا يدّعي الولاية ، ولا تُدّعى له ، وإنما الله هو الذي يظهره أو يخفيه ، وشمس الحقيقة لها شعاع تعرف به ، ويراها أصحاب البصائر النيّرة ،ومطموس البصيرة لا يراها ، كما لا يرى الأعمى شمس السماء ، وأوّل مثال هو الرسول صلى الله عليه وسلم آمن به من أعمامه حمزة والعبّاس ، وكفر أبولهب وأبو طالب ، وقد تقدّم أن أشار حاجي خليفة في كتابه "كشف الظّنون" الى حقيقة المعنى الباطنيّ لعلم التصوّف فقال :
علم التصوف علمٌ ليس يعرفه إلا أخو فطنةٍ بالحق معروفُ
وليس يعرفه مَنْ ليس يشهده وكيف يشهد ضوءَ الشمسِ مكفوفُ ؟
إنّ الذهب والنحاس قد يتشابهان في اللون ، وتبرز الحقيقة عند وضعهما في بوثقة الصائغ ، كما أنّ الشّعودة قد تتشابهان في الظاهر وتبرز الحقيقة بالافرازات القلبيّة ، وبفراسة المؤمن ، الذي قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في شأنه :"اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله" وبنور الله يرى الحقيقة الالهيّة ، ولا يرى الشعودة البشريّة.. نقل عبد القادر عيسى أنّ الفراسة في اللّغة ، وعند المفكّرين ، تعني التثبّت وإمعان النظر ، وعند أصحاب الحقيقة تعني "مكاشفة اليقين ومعاينة الغيب" ونقل عن ابن عجيبة أنه قال :"الفراسة هي خاطر يهجم على القلب.. وهي على حسب قوّة القرب والمعرفة ، فكلّما قوي القرب ، وتمكّنت المعرفة من القلب صدقت الفراسة ، لأن الروح إذا قربت من حضرة الحق لا يتجلّى فيها الاّ الحقّ" (16) فتعتبر الفراسة القائمة على مكاشفة اليقين ومعاينة الغيب ، هي المعيار الباطني القادر بنور الله على إخراج الحقّ من حومة الباطل ، والتفريق بين الحقيقة الالهية ، التي تعرف القلوب الطيبة الطاهرة ، والشّعودة البشريذة ، التي تعرف القلوب الغافلة المظلمة.
وبذلك يتضح أن الفراسة ، التي كثيرا ما يعتمدها شيوخ التربيّة الروحيّة في استطلاح الأحوال الباطنيّة للمريدين ، لها جانب ظاهري وباطني.. فإذا كانت في نظر المفكّرين تعني التثبّت وإمعان النظر ، فإنها في بواطن الأولياء والعارفين تعني مكاشفة اليقين ومعاينة الغيب . والمعنى الباطني هو الذي يتجاوب مع قول الرسول صلى الله عليه وسلّم :" فإنه ينظر بنور الله" والذين ينظرون بنور الله ، وتعني في بواطنهم مكاشفة اليقين ومعاينة الغيب هم الذين لا تخطئ فراستهم : لا تخطئ لأنها تكون من المؤمن بنور الله ، كما جاء في بعض الروايات :"اتقوا فراسة المؤمن فانّ فراسة المؤمن لا تخطئ" وأما في نظر المفكّرين الذّي تعني في حقّهم التثبّت وإمعان النّظر ، فقد تخطئ وقد تصيب ، كما هو الشأن بالنسبة لنتائج العقل ، وقد روى البزّار والطبراني في الأوسط ، حول ما يلاحظ في من صدق وتوسّمات وفراسات شيوخ التربية الروحيّة ، خاصّة في المريدين أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إنَّ لله عبادً يَعْرِفون النّاس بالتّوسُّم"وتلك من أوصاف الأولياء والعارفين . وقد تقدّم ما رواه الشّاطبي عن شاهْ الكرماني ، حول مؤهّلات الفراسة الباطنية ، إذ يقول :"من غضّ بصرَه عَن المَحارم وأمسَك نفسَه عن الشّبهات ، وعمّر باطنَه بدوام المراقبة ، وظاهره باتّباع السّنة ، وعوَّد نفسَه أكل الحلال ، لم تخطئ له فراسة" وأي طائفة تلتزم بهذه الخصال ، وتتجلّى بهذه الصّفات ؟ العقلانيون والمفكّرون ، أم الأولياء والعارفون ؟.
وأكبر الأولياء شأنا ، وأعلاهم مقاما ، وأنفعهم للنّاس ، هم الذين نطقت أحوالهم بما تمتلئ به قلوبهم ، وأفصحت أعمالهم وأخلاقهم عمّا تكنّه صدورهم ، فغاصوا في بحر العبودية لله ، والخضوع لعظمته وجلاله ، دون أن يروا لأنفسهم من دون النّاس ميزة ، ولأصحابهم نجاة ، فتراهم يكونون سبب الهداية ولا يضمنونها ، ويرشدون إلى الحقيقة الكبرى ، ولا يدّعون الاتّصال بها.. حالهم حال العبد المنيب المفتقر إلى مولاه ، الخائف من عذابه ، الراجي لمغفرته وحسن ثوابه... يعوّلون على فضله وكرمه ، ولا يعتدّون أمامه بأيّ عمل.. مقتبسين عبوديتهم من عبودية الرسول صلى الله عليه وسلّم وهو القائل من رواية البخاري :"لن ينجي أحدا منكم عمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله ،قال :" ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة" إن التوحيد الصّافي هو توحيد أصحاب الحقيقة الصوفيّة ، لأنه قلبيّ شعوريّ وجدانيّ ، لم يشوّش بإقامة البراهين العقليّة على وجود الله.. ومن سكن المعنى في قلبه ليس في حاجة الى إقامة الدّليل على وجوده ، ومن ما يزال في حاجة الى أدلّة عقليّة إقناعيّة ، تقنعه بوجود الله لم يكتمل إيمانه بعد.
إن الأولياء الحقيقيين قوم دفنوا أنفسهم في أرض العبوديّة لله ، وأظهرهم من الخفاء ، لينفع بهم عباده ، ومن تركه مخفيّا أراحه من مسؤوليّة تحمّل الأمانة ، والحفاظ على الحقيقة وكتمانها ، وهيأ له ظروف الاشتغال به وحده ، وهو ما اختاره لعبده مولاي عبد السلام بن مشيش ، الذي ظلّ مخفيّا في الغار ، حتّى اكتشفه أبو الحسن الشاذلي باشارة من صوفيّ بالشرق العربي ، كان ذا مكاشفة ، وذا حقيقة ، لم تصل درجة الإذن في الذكر وتربية الأرواح.. وأصحاب المكاشفة يعرفون بعض أصحاب الحقائق ، ودرجة مقاماتهم ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ )(17) وتصديقا بالاشارة الغيبيّة ، عاد أبو الحسن إلى المغرب ، الذي لم يعلم أن فيه صاحب الحقيقة الكبرى ، وأخد يبحث عنه في جبل العلام حيث موضع الاشارة إلى أن عثر عليه غائبا في ذات الله ، كما يغيب الذهب تحت الأرض ، فألحّ عليه في الإذن في الذكر ، فاعتذر ، مفضّلا الخفاء والانقطاع إلى الله على الظهور ومخالطة النّاس ، كما هو شأن الكمّال . ولمّا تيقّن أنّ أحواله أحوال الكمّال عاد إليه ، وخاصمه إلى الله ، إن هو قادر على أن يأخد بيده إلى معرفة خالقه ولم يفعل ، ففعل...
وأبو الحسن الشاذلي ، الذي كان عالما وصوفيّا نظريّا ، ولم يمنعه علمه وتصوّفه النظري من البحث - شرقا وغربا - عن الشّيخ المربيّ الواصل الموصّل ، هو التلميذ الوحيد المعروف لمولاي عبد السلام بن مشيش. التقى شيخ مأذون صاحب حقيقة وسرّ ومدد ، مع تلميذ مخلص صادق الطلب ، فأفرغ فيه قِرْبة روحانيته ، فنتج عن هذا التّلاقح المعنويّ ، والاندماج الروحيّ ، أن وجدنا الطرق الصوفيّة القائمة على الكتاب والسنّة ، والتي عرفناها في المغرب - عدا القادرية - تعود في أصلها إلى الشاذلية.. إنها نتائج الأنفس الربانيّة المطمئنّة الراضيّة المرضيّة ، والأرواح الطيّبة الطاهرة ، وصدق الله العظيم اذ يقول :(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) (18)
** ** **
8 - سورة الأنعام :89
9 - سورة البقرة : 279
10 - سورة يونس : 62
11 - سورة ص : 83
12 - الاعتصام 8/2
13 - سورة البقرة : 26
14 - اليمان ص 15
15 - الاعتصام 10/2
16 - حقائق عن التصوف : 419
17 - سورة يوسف : 76
18 - سورة الاعراف : 57