يقول الحقّ جلّ جلاله : مُعلماً لعباده كيف يطلبونه ، وما ينبغي لهم أن يطلبوا ، أي : قُولوا { اهدنا } أي : أَرشِدْنا إلى الطريق المستقيم ، الموصلة إلى حضرة النعيم ، والطريقُ المستقيم هو السيرُ على الشريعة المحمدية في الظاهر ، والتبرِّي من الحول والقوة في الباطن ، أو تقول : هو أن يكون ظاهرُك شريعةً وباطنك حقيقة ، ظاهرك عبودية وباطنك حرية ، الفرق على ظاهرك موجود والجمع في باطنك مشهود ، وفي الحكم : « متى جَعَلَك في الظاهر ممتثلاً لأمره وفي الباطن مستسلماً لقهره ، فقد أعظم المِنَّة عليك » .
فالصراط المستقيم الذي أمرَنَا الحقُّ بطلبه هو : الجمع بين الشريعة والحقيقة ، والمفهوم من قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفَاتِحَة : 5 ] ، ولذلك وصلَه به ، فكأن الحق - سبحانه - يقول : « يا عبادي احمدوني ومجدوني وأفردوني بالقصد وخُصُّوني بالعبادة ، وكونوا في ظاهركم مشتغلين بعبادتي ، وفي باطنكم مستعينين بحولي وقوتي ، أو كونوا في ظاهركم متأدبين بخدمتي ، وفي باطنكم مشاهدين لقدرتي وعظمة ربوبيتي » .
وقال سيّدنا عليّ - كَرَّمَ الله وجهه - : ( الصراط المستقيم هنا القرآن ) . وقال جابر رضي الله عنه : ( هو الإسلام ) يعني الحنيفية السمحاء وقال سهل بن عبد الله : ( هو طريق محمد صلى الله عليه وسلم ) . يعني اتباعَ ما جاء به . وحاصله ما تقدم من إصلاح الظاهر بالشريعة والباطن بالحقيقة ، فهذا هو الطريق المستقيم الذي من سلطه كان من الواصلين المقربين مع النبيين والصدِّيقين .
فإن قلت : إذا كان العبدُ ذاهباً على هذا المنهاج المستقيم ، فكيف يطلب ما هو حاصل؟ فالجواب : أنه طلب التثبيت على ما هو حاصل ، والإرشاد إلى ما هو ليس بحاصل ، فأهل مقام الإسلام يطلبون الثبات على الإسلام ، الذي هو حاصل ، والترقي إلى مقام الإيمان الذي ليس بحاصل ، على طريق الصوفية ، الذين يخصون العمل الظاهر بمقام الإسلام ، والعمل الباطن بمقام الإيمان ، وأهلُ الإيمان يطلبون الثبات على الإيمان الذي هو حاصل ، والترقي إلى مقام الإحسان الذي ليس بحاصل ، وأهل مقام الإحسان يطلبون الثبات على الإحسان ، والترقي إلى ما لا نهاية له من كشوفات العرفان { وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَليمٌ } [ يُوسُف : 76 ] .
وقال الشيخ أبو العباس المرس رضي الله عنه : { اهدنا الصراط المستقيم } بالتثبيت فيما هو حاصل ، والإرشاد فيما ليس بحاصل ، ثم قال : عمومُ المؤمنين يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } أي : بالتثبيت فيما هو حاصل ، والإرشاد لما ليس بحاصل ، فإنه حصل لهم التوحيد وفاتَهُم درجات الصالحين ، والصالحون يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } معناه : نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حصل لهم الصلاح وفاتهم درجات الشهداء ، والشهداءُ يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } أي بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حصلت لهم الشهادة وفاتهم درجات الصديقين ، والصديقون يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } أي : بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حَصل لهم درجات الصديقين وفاتهم درجات القطب ، والقطبُ يقول : { اهدنا الصراط المستقيم } بالتثبت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنه حصل له رتبة القطبانية ، وفاته علم ما إذا شاء الله أن يطلعه عليه أطلعه .
الطريق المستقيم التي أمرنا الحق بطلبها هي : طريق الوصول إلى الحضرة ، التي هي العلم بالله على نعت الشهود والعيان ، وهو مقام التوحيد الخاص ، الذي هو أعلى درجات أهل التوحيد ، وليس فوقه إلا مقامُ توحيد الأنبياء والرسل ، ولا بد فيه من تربية على يد شيخ كامل عارف بطريق السير ، قد سلك المقامات ذوقاً وكشفاً ، وحاز مقام الفناء والبقاء ، وجمع بين الجذب والسلوك؛ لأن الطريق عويص ، قليلٌ خُطَّارُهُ ، كثيرٌ قُطَّاعُه ، وشيطانُ هذا الطريق فَقِيهٌ بمقاماته ونوازِله ، فلا بد فيه من دليل ، وإلا ضلّ سالكها عن سواء السبيل .
وقال في لطائف المنن : ( من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع ، ويكشف له عن قلبه القناع ، فهو في هذا الشأن لَقيطٌ لا أب له ، دَعِيٍّ لا نَسَبَ له ، فإن يكن له نور فالغالب غلبة الحال عليه ، والغالب عليه وقوفه مع ما يرد من الله إليه ، لم تَرْضْهُ سياسةُ التأديب والتهذيب ، ولم يَقُدْهُ زمَانمُ التربية والتدريب ) ، فهذا الطريق الذي ذكرنا هو الذي يستشعره القارئ للفاتحة عند قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } مع الترقي الذي ذكره الشيخ أو العباس المرسي رضي الله عنه المتقدم ، وإذا قرأ { صراط الذين أنعمت عليهم } استشعر ، أَيْ : أنعمتَ عليهم بالوصول والتمكين في معرفتك .
وقال الورتجبي : اهدنا مُرَادَك مِنَّا؛ لأن الصراط المستقيم ما أراد الحق من الخلق ، من الصدق والإخلاص في عبوديته وخدمته . ثم قال : وقيل : اهدنا هُدَى العِيَانِ بعد البيان ، لتستقيم لك حسب إرادتِك . وقيل : اهدنا هُدَى مَنْ يكون منك مبدؤه ليكون إليك منتهاه . ثم قال : وقال بعضهم : اهدنا ، أي : ثبِّتْنا على الطريق الذي لا اعوجاج فيه ، منازل الذين أنعمت عليهم بالمعرفة والمحبة وحسن الأدب في الخدمة . ثم قال : وقال بعضهم : اهدنا ، أي : ثبِّتْنا على الطريق الذي لا اعوجاج فيه ، وهو الإسلام ، وهو الطريق المستقيم والمنهاج القويم { صراط الذين أنعمت عليهم } أي : منازل الذين أنعمت عليهم بالمعرفة والمحبة وحسن الأدب في الخدمة .