إنما كان سبب الهموم هو فقد الشهود، لأن الحق تعالى قريب على الدوام رقيب على الدوام، فمن كان قريباً من الحبيب فكيف يحس بفراق شئ أو فواته ؟
نظر الحبيب يغيب عن كل بعيد وقريب وأيضاً كل ما ينزل من عند الحبيب فهو حبيب فلا يلحقه شيء مكروه عنده حتى يهتم به، ولا يفوته محبوب سوى محبوبه حتى يحزن عليه، ففي محبوبه اجتمعت المحاسن كما قال القائل :
تذلل له تحظى برؤيا جماله ... ففي وجه من تهوى الفرائض والنفل
وفي هذا المعنى أيضا قال صاحب العينية :
تلذّ لي الآلام إذ كنت مسقمي *** وإن تختبرني فهو عندي صنائع
وبالجملة : من كان نظره إلى محبوبه ومشاهداً لنوره وجماله لم يبق له هم ولا غم.
كما قال ابن الفارض في شهود الخمرة :
فما سكنت والهمّ يوما بموضع *** كذلك لم يسكن مع النغم الغمّ
وقال أيضا :
ولو خطرت يوما على خاطر امرئ *** أقامت به الأفراح وارتحل الهمّ
ومما أوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السلام : يا داود لا تمزج هم غيري بقلبك فتنقص منه حلاوة الروحانيين ، يا داود : أنا مصباح قلوب الروحانيين ، ومن كنت مصباح قلبه لم يغتم أبدا ، يا داود : إنما مرادي من خلقي أن يكونوا روحانيين انتهى .
وبالجملة : من كان عبداً لله غائباً عما سواه لم يبق له شئ من الهم لأنه قد حصلت له المعية التي توجب النصر والظفر بكل ما يريد ألا ترى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر :(لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) حين أحدق به المشركون، فكان عليه الصلاة والسلام في محل العيان فلم يهمه شيء ولم تقرب من ساحته الأحزان، وكان أبو بكر في ذلك الوقت موقناً غير مشاهد، فدله عليه الصلاة و السلام على مقام الكمال لأن الشهود فوق الإيقان، ومن جملة ما وقع من الاهتمام به لمن لم يكمل يقينه أمر الرزق وخوف الخلق، حتى قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : من ضمنهما لي ضمنت له الولاية.
إيقاظ الهمم في شرح الحكم