لا ينبغي للمريد أن يمل من التصفية والتشمير ، ولو بلغ من تصفية نفسه ما بلغ ، أو أَظهرت له من الاستقامة ما أظهرت ، قال تعالى : {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا}[الأنعام:70]
قال أبو حفص النيسابوري رضي الله عنه : من لم يتَّهم نفسه على دوام الأوقات ، ولم يخالفها في جميع الأحوال ، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أيامه ، كان مغرورًا، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها ، وكيف يصح لعاقل الرضا عن نفسه؛ والكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم ، يقول : { وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [ يوسف : 53 ] . وقال أيضًا : منذ أربعين سنة اعتقادي في نفسي أن الله ينظر إليَّ نظر السخط ، وأعمالي تدل على ذلك . وقال الجنيد رضي الله عنه : لا تسكن إلى نفسك ، وإن دامت طاعتها لك في طاعة ربك . وقال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه : ( ما رضيت عن نفسي طرفة عين ) . إلى غير ذلك من مقالاتهم التي تدل على عدم الرضى عن النفس وعدم القناعة منها بالتصفية التي آظهرت .
فإن قلت : العارف لم تبق له نفس يتهمها؛ لفنائه في شهوده وانطوائه في وجوده؟ قلت : العارف الكامل هو الذي لا يحجبه جمعه عن فرقة ، ولا فرقة عن جمعه ،فإذا رجع إلى شهود فرقه ، رأى نفسه عبدًا متصفًا بنقائص العبودية التي لا نهاية لها ،ولذلك قالوا : للنفس من النقائص ما لله من الكمالات . فلو تطهرت كل التطهير لم يقبل منها ، وإذا نظر إلى نعت جمعه رأى نفسه مجموعًا في الحضرة ، متصفًا بالكمالات التي لا نهاية لها ، فيغيب عن شهود عبوديته في عظمة ربوبيته ، لكنه لا يحجب بجمعه عن فرقه؛ لكماله ، وإلى هذا المعنى أشار في الحكم بقوله : لا نهاية لمذامك إن أرجعك إليك ، ولا تفرغ مدائحك إن أظهر جوده عليك . وبالله التوفيق .
تفسير ابن عجيبة