وهو من الإيمان منزلة الروح من الجسد .وبه تفاضل العارفون . وفيه تنافس المتنافسون . وإليه شمر العاملون . وعمل القوم إنما كان عليه . وإشاراتهم كلها إليه . وإذا تزوج الصبر باليقين : ولد بينهما حصول الإمامة في الدين . قال الله تعالى ، وبقوله : يهتدي المهتدون" وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون" .
فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح . وهو حقيقة الصديقية . وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره . واليقين قرين التوكل . ولهذا فسر التوكل بقوة اليقين .
ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا . وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط ، وهم وغم . فامتلأ محبة لله . وخوفا منه ورضا به ، وشكرا له ، وتوكلا عليه ، وإنابة إليه . فهو مادة جميع المقامات والحامل لها .
وعند القوم : اليقين لا يساكن قلبا فيه سكون إلى غير الله .
قال صاحب " المنازل " رحمه الله : اليقين : مركب الآخذ في هذا الطريق . وهو غاية درجات العامة . وقيل : أول خطوة للخاصة .
- قال الجنيد -رحمه الله-: "اليقين ارتفاع الريب في مشهد الغيب".
- سئل الجنيد عن اليقين فقال: "اليقين ارتفاع الشك".
- قال الجنيد -رحمه الله- : "اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب، ولا يتحول، ولا يتغير في القلب".
- سئل الجنيد عن اليقين ما هو؟ فقال: "ترك ما ترى لما لا ترى".
- قال الجنيد: "اليقين ألاّ تهتم لرزقك الذي كفيته، وتُقبل على عملك الذي كُلفته، فإن اليقين يسوق إليك الرّزق سوقا حثيثا".
- قال الجنيد: "حق اليقين ما يتحقق العبد بذلك، وهو أن يشاهد الغيوب كما يشاهد المرئيات مشاهدة عيان، ويحكم على الغيب فيخبر عنه بالصدق، كما أخبر الصدّيق حين قال لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا أبقيت لعيالك؟ قال: الله ورسوله".
قال ذو النون رضي الله عنه : وثلاثة من أعلام اليقين : قلة مخالطة الناس في العشرة . وترك المدح لهم في العطية . والتنزه عن ذمهم عند المنع . وثلاثة من أعلامه أيضا : النظر إلى الله في كل شيء . والرجوع إليه في كل أمر . والاستعانة به في كل حال .
قال النهرجوري : إذا استكمل العبد حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة والرخاء عنده مصيبة .
وهو على ثلاث درجات:
وقد مثلت المراتب الثلاثة بمن أخبرك : أن عنده عسلا ، وأنت لا تشك في صدقه . ثم أراك إياه . فازددت يقينا . ثم ذقت منه .
فالأول : علم اليقين . والثاني : عين اليقين . والثالث : حق اليقين .
الدرجة الأولى : علم اليقين . وهو قبول ما ظهر من الحق . وقبول ما غاب للحق . والوقوف على ما قام بالحق .
قبول ما ظهر من الحق تعالى : أوامره ونواهيه وشرعه ،والإيمان بالغيب الذي أخبر به الحق سبحانه على لسان رسله والوقوف على ما قام بالحق سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله .
الدرجة الثانية : عين اليقين . وهو المغني بالاستدلال عن الاستدلال . وعن الخبر بالعيان . وخرق الشهود حجاب العلم .
الفرق بين علم اليقين وعين اليقين : كالفرق بين الخبر الصادق والعيان . يعني صاحبه قد استغنى به عن طلب الدليل . فإنه إنما يطلب الدليل ليحصل له العلم بالمدلول . فإذا كان المدلول مشاهدا له - وقد أدركه بكشفه - فأي حاجة به إلى الاستدلال ؟
الدرجة الثالثة : حق اليقين . وهو إسفار صبح الكشف . ثم الخلاص من كلفة اليقين . ثم الفناء في حق اليقين .يعني : تحققه وثبوته ، وغلبة نوره على ظلمة ليل الحجاب . فينتقل من طور العلم إلى الاستغراق في الشهود بالفناء عن الرسم بالكلية .