فإذا طلبت الدخول مع الأحباب فقف ذليلاً حقيراً بالباب حتى يرفع بينك وبينهم الحجاب من دون حيلة منك ولا أسباب وإنما هو فضل من الكريم الوهاب كما أشار إلى ذلك بقوله:
(لَوْ أَنَّكَ لا تَصِلُ إليهِ إلّا بَعْدَ فَنَاءِ مَسَاويكَ وَمَحْوِ دَعاويكَ لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ أَبَداً. وَلكِنْ إذا أرادَ أَنْ يُوصِلَكَ إلَيْهِ سَتَرَ وَصْفَكَ بِوَصْفِهِ، وَغَطّى َنَعْتَكَ بِنَعْتِهِ، فَوَصَلَكَ إلَيْهِ بِما مِنْهُ إلَيْكَ لا بِما مِنْكَ إلَيْهِ)
الوصول إلى الله هو العلم به وبإحاطته بحيث يفني من لم يكن ويبقي من لم يزل وهذا لا يكون إلا بعد موت النفوس وحط الرؤوس وبذل الأرواح وبيع الأشباح لقوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ" أي جنة المعارف لأهل الجهاد الأكبر، وجنة الزخارف لأهل الجهاد الأصغر، ولقوله عليه السلام:" موتوا قبل أن تموتوا" ذكره النقشبندي في شرح الهائية حديثاً..قال في لطائف المنن:" لا يدخل على الله إلا من بابين أحدهما الموت الأكبر وهو الموت الحسي والثاني الموت الذي تعنيه هذه الطائفة يعني موت النفوس".
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه:" لا يصل الولي إلى الله تعالى ومعه شهوة من شهواته أو تدبير من تدبيراته وأختيار من أختياراته" وهذه التصفية ليست هي من فعل العبد وكسبه ، وإنما هي بسابق عناية ربه، فلو كان العبد لا يصل إلى الله تعالى إلا بعد فناء مساويه ومحو دعاويه من حيث هو هو لم يصل أبداً ، لكن الحق تعالى من كرمه وجوده إذا أراد أن يطوي عنه مسافة البعد، أظهر له من أنوار قدسه ونعوت وصفه ما يغيب به العبد عن شهود نفسه ، فحينئذ تفني المساوي، وتمتحق الدعاوي ، فيحصل الوصول ، ويبلغ المأمول ، بما من الله إلى العبد من سابق العناية والوداد ، لا بما من العبد إلى الله من الكد والاجتهاد، وإن شئت قلت : فناء المساوي هو التطهير من أوصاف البشرية ، وهي الأخلاق المذمومة من حيث هي ومحو الدعاوى ، وهو التبري من الحول والقوة ، بحيث لا يرى لنفسه فعلاً ولا تركا ولا نقصاً ولا كمالاً ، وإنما هي غرض لسهام الأقدار، تجري عليها أحكام الواحد القهار ، فتحقيق هذين الأمرين على الكمال مع وجود النفس كاد أن يكون من المحال ، لكن الحق تعالى لكرمه وجوده إذا رأى منك صدق الطلب ، وأراد أن يوصلك إليه ، وصلك إلى ولي من أوليائه وأطلعك على خصوصيته، فلزمت الأدب معه ، فما زال يسير بك حتى قال لك ها أنت وربك ، فحينئذ يستر الحق تعالى وصفك الذي هو وصف العبودية بوصفه الذي هو وصف الحرية، فتتنحى أوصاف البشرية بظهور أوصاف الروحانية، ويعطي أيضاً نعتك الذي هو الحدوث بنعته الذي هو القدم ، أو غطي نعتك الذي هو العدم بنعته الذي هو الوجود، وقال الشيخ زروق:" ستر فقرك بغناه وذلك بعزه وعجزك بقدرته وضعفك بقوته ويصرفك عن شهود ذلك منك وإليك بشهود ما منه إليه" .
قلت : وهو لازم لما فسر به من وصف العبودية ونعت الحرية ، فوصلك حينئذ بما منه عليك من الإحسان واللطف والامتنان لا بما منك إليه من المجاهدة والطاعة والإذعان ، ومثال النفس كالفحمة كلما غسلتها بالصابون زاد سوادها ، فإذا اشتعلت فيها النار ونفخ فيها الريح كستها النار ولم يبق للون الفحمة أثر ، فكذلك أوصاف البشرية إذا كساها نور الروحانية تغطت ظلمة البشرية ولم يبق لها أثر فتنقلب البشرية في صفة روحانية.
والنار التي تحرق البشرية هي : مخالفة الهوي ، وتحمل النفس ما يثقل عليها كالذل والفقر ونحوهما مع دوام ذكر الإسم المفرد فكلما فنى فيه ذابت بشريته وقويت روحانيته حتى تستولي على بشريته فحينئذ يكون الحكم لها فتغيب في نور مذكورها ، وتغرق في شهود عظمة محبوبها ، فحينئذ يحصل الوصال ويتحقق الفناء في ذي العظمة والجلال.
وحاصلها أمرك بالتعلق بأوصاف الربوبية ، والتحقق بإوصاف العبودية وعدم مشاركتك له في وصف الحرية ، وما تعودت به من ذلك فاخرق لها تلك العوائد هنالك حتى تتهذب وتتأدب وتكتفي بعلم الحال عن وجود الطلب ، فيكون طلبها شاهد حالها من الذلة والإنكسار وظهور الفاقة والإضطرار فحينئذ تترادف عليها المواهب ، وتنال بذلك غاية المطالب ومنتهى الرغائب وهو الوصول إلى حضرة القدس ومحل الأنس من غير حيلة ولا اكتساب وإنما هو منة من الكريم الوهاب منّ عليها بالوصول وتفضل عليها بالقبول.
إيقاظ الهمم في شرح الحكم
يالله ما حمالك
ردحذف