{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولما جاء موسى لميقاتنا} الذي وقتنا له {وكلَّمه ربه} من غير واسطة كما يكلم الملائكة. وفيما رُوِي: أنه كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة، وفيه تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين.
{قال ربِّ أرني أنظر إليك} أي: أرني نفسك أنظر إليك، بأن تكشف الحجب عني، حتى أنظر إلى ذاتك المقدسة من غير واسطة، كما أسمعتني كلامك من غير واسطة. قال البيضاوي: وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة؛ لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال، وخصوصًا ما يقتضي الجهل بالله، ولذلك رده بقوله تعالى: {لن تراني} دون لن أُرِى ولن أريك، ولن تنظر إليّ، تنبيهًا على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على حال في الرائي، لم توجد فيه بعدُ.
الإشارة
رؤية الحق جائزة واقعة عند الصوفية في الدارين ، ولكن لا ينالها في هذه الدار إلا خواص الخواص ، ويُعبّرون عنها بالشهود والعيان ، ولا يكون ذلك إلا بعد الفناء وفناء الفناء بعد موت النفس وقتلها ، ثم الغيبة عن حسها ورسمها ، تكون بعد التهذيب والتدريب والتربية على يد شيخ كامل ، لا يزال يسير به ويقطع به في المقامات ، ويغيبه عن نفسه ورؤية وجوده ، حتى يقول له : ها أنت وربك.
وذلك أن الحق جل جلاله تجلى لعباده بأسرار المعاني خلف رداء الأواني ، وهو حس الأكوان ، فأسرار المعاني لا يمكن ظهورها إلا بواسطة الأواني ، أو تقول : أسرار الذات لا تظهر إلا في أنوار الصفات ، فلو ظهرت أسرار الذات بلا واسطة لاضمحلت الأشياء واحترقت ، كما في الحديث : « حِجَابُهُ النُّورُ ، لَو كشَفَهُ لأحرقَت سُبُحَاتُ وَجههِ ما أنتَهَى إلَيه بَصَرُهُ من خلَقِهِ » .
فالمراد بالنور نور الصفات ، وهو الأواني الحاملة للمعاني ، لو كشف ذلك النور حتى تظهر أسرار الذات لأحرقت كل شيء أدركه بصره . والواسطة عند المحققين هي عين عين الموسوط ، فلا يزال المريد يفنى عن عين الواسطة في شهود الموسوط حتى يغيب عن الواسطة بالكلية ، أو تقول : لا يزال يغيب عن الأواني بشهود المعاني حتى تشرق شمس العرفان ، فتغيب الأواني في ظهور المعاني ، فيقع العيان على فقد الأعيان ، « كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان » ، « ما حجبك عن الحق وجود موجود معه ، إذ لا شيء معه ، وإنما حجبك توهم موجود معه » .
والحاصل : أن الحق تعالى تكون رؤيته أولاً بالبصيرة دون البصر ، لأن البصيرة تدرك المعاني ، والبصر يدرك الحسيات ، فإذا انفتحت البصيرة استولى نورها على نور البصر ، فلا يرى البصر حينئذٍ إلا ما تراه البصيرة . قال بعض العارفين : هذه المزية العظمى وهي رؤية الحق تعالى في الدنيا على هذا الوجه : خاص بخواص الأمة المحمدية دون سائر الأمم وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فإنه خص بالرؤية دون غيره من الأنبياء .