{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (سورة النحل)
قيل للذين اتقوا التقوى الكاملة : ماذا أنزل ربكم من المقادير؟ قالوا : خيرًا ، فكل ما ينزل بهم من قدر الله وقضائه ، جلاليًا كان أو جماليًا ، جعلوه خيرًا ، وتلقوه بالرضا والتسليم . يقولون : إذا كنتَ أنتَ المُبْتَلِي فافعل ما شئت ، لا يتضعضعون ولا يسأمون ، ولا يشكون لأحد سوى محبوبهم؛ لأن الشكوى تنافي دعوى المحبة ، كما قال الشاعر :
إِنْ شَكَوْتَ الهَوَى فما أنت منّا احْمِلِ الصَّدَ والجفا يا مُعَنَّا
تَدَّعِي مَذْهبَ الهَوى ثم تَشْكُو أين دَعْوَاك في الهَوَى قَل لِيَ أيْنَا؟
لَو وَجَدْنَاكَ صابرًا لِهَوانا لأعْطيناك كُلَّ ما تتمنى
وإنما قالوا ، في كل ما ينزل بهم : خيرًا ، أو جعلوه لطفًا وبرًا؛ لما يجدون في قلوبهم ، بسببه ، من المزيد والألطاف ، والتقريب وطي مسافة النفس ، ما لا يجدونه في كثير من الصلاة والصيام سنين؛ لأن الصلاة والصيام من أعمال الجوارح ، وما يحصل في القلب من الرضا والتسليم ، وحلاوة القرب من الحبيب ، من أعمال القلوب ، وذرة منها خير من أمثال الجبال من أعمال الجوارح .
وفي الخبر : « إذَا أحَبَّ اللهُ عَبْد ابْتَلاَهُ ، فَإِنْ صَبَرَ اجْتَبَاهُ ، وإِنْ رَضِيَ اصْطَفَاه » وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« عَجَبًا لأمر المُؤْمن ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ له خَيرٌ ، وليْسَ ذلِكَ لأحَدٍ إلاَّ للمُؤْمِنِ . إن أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شكَرَ ، فَكَانَ خَيرًا لََهَ ، وإنْ أصَابَتْه ضَرَّاءُ صَبَرَ ، فَكَانَ خَيرًا لَهُ » وفي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما يُصيب المؤمنَ من وَصَبٍ ، ولا نَصَبٍ ، ولا سَقَمٍ ، ولا حَزَنٍ ، حتى الهَمُّ يُهِمُّه ، إلا كفّر له من سيئاته » وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم : « مَا مِنْ مُسْلِم يُصِيبُهُ أَذىً من مرض فَمَا سَواه ، إلا حَطَّ به عنه سَيِّئاتِهِ كَمَا تَحُطَّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا » ورُوي عن عيسى عليه السلام أنه كان يقول : لا يكون عالمًا من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض على جسده وماله؛ لِمَا يرجو بذلك من كفارة خطاياه. فتحصل أن ما ينزل بالمؤمن كُلَّهُ خير ، فإذا سئل : ماذا أنزل ربكم؟ قال خيرًا .
ثم قال تعالى : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا } ؛ أي : بالرضا عني في جميع الأحوال ، والاشتغال بذكري في كل حال ، لهم في الدنيا { حسنةٌ } : حلاوة المعرفة ، ودوام المشاهدة ، { ولدارُ الآخرة خيرٌ } ؛ لصفاء المشاهدة فيها ، واتصالها بلا كدر؛ إذ ليس فيها من شواغل الحس ما يكدرها ، بخلاف الدنيا؛ لأن أحكام البشرية لا ينفك الطبع عنها ، كغلبة النوم ، وتشويش المرض وغيره ، بخلاف الجنة ، ليس فيها شيء من الكدر ، ولذلك مدحها بقوله : { ولَنِعْمَ دارُ المتقين } .
ثم قال : { كذلك يجزي الله المتقين } لكل ما يشغل عن الله؛ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ، طاهرين ، مطهرين من شوائب الحس ، ودنس العيوب ، طيبة نفوسُهم بحب اللقاء ، قد طيبوا أشباحهم بحسن المعاملة ، وقلوبهم بحسن المراقبة ، وأرواحهم بتحقيق المشاهدة . تقول لهم الملائكة الكرام : سلام عليكم ، ادخلوا جنة المعارف إثر موتكم ، وجنة الزخارف إثر بعثكم؛ بما كنتم تعملون من تطهير أجسامكم من الزلات ، وتطهير قلوبكم من الغفلات ، وتطهير أرواحكم من الفترات . وبالله التوفيق .
تفسير ابن عجيبة