قال القشيري : قال الاستاذ الشيخ: إن الحرية تتحدد في أن لايكون العبد تحت رق المخلوقات ولا يجري عليه سلطان المكونات وقال : واعلم أن حقيقة الحرية في كمال العبودية ، فاذا صدقت لله عبوديته ، خلصت من رق الأغيار حريتُه .
قال القشيري : وإن الذي أشار اليه القوم من الحرية هو أن لا يكون العبد بقلبه تحت رق شيء من المخلوقات ، لا من أعراض الدنيا ولا من أعراض الآخرة ، فيكون فرد الفرد لم يسترقه عاجل دنيا ولا حاصل هوى ولا آجل منى ً ولا سؤال ولا قصد ولا حظ .
ونقل القشيري عن الجنيد رحمه الله قوله : إنك لا تصل صريح الحرية وعليك من حقيقة عبوديته بقية .
وهذه الكلمات تحتاج الى توضيح ، ولنبتدئ من كلام الجنيد رحمه الله ، فالسالك الى الله لن ينال الحرية المطلقة ويصبح حرا من عبودية الأغيار والأعراض حتى يتحقق بمقام العبودية لله تعالى ويتمحض معناها فيه ، فبحسب تحققه بها وتمحضها فيه تكون حريته .
فمن بقيت له بقية لم يحقق فيها عبوديته لله ، بقيت حريته لم تتصرح ولم تتمحض للاطلاق ، فيبقى عبدا ما بقي عليه درهم حتى يخلص العبودية كاملة لله تعالى .
ومعنى العبودية التوجه بكل معاني القلب الى الله تعالى فلا يحب الا الله ولا يرجو سواه ولا يخشى الا منه . لهذا يعرفها بعضهم بقوله : العبودية هي كمال الافتقار الى الله تعالى ، والاخر يعرفها بقوله : العبودية هي شهود الربوبية ، ومعنى هذا أن الربوبية كبرى صفات الله تعالى عنها خلق الكون وأوجد الكائنات وأعدها بصنوف الإعدادات وأمدها بأنواع الإمدادات ، فكل شيء منه وكل شيء إليه يعود، فاذا شهد العبد تمام تصرف الرب في الكون وتمكله لكل شيء ونفوذ أمره في كل شيء وأنه لا معقب لحكمه ولا غالب لأمره أورثه هذا شعورا بالفقر تحت سلطان غناه وبالذل تحت هيمنة جلاله وبالانكسار تحت قهر ملكوته فعلم أنه ليس بشيء و ليس منه شيء ولا إليه شيء وأن أحسن ما فيه أنه عبد لمولاه ، فقير اليه لا يقوم إلا به ولا يصرفه في وجوه الفعل الا هو سبحانه ، وكان لسان مقاله وحاله دائما : لا حول ولا قوة الا بالله. أي براءة الى الله من كل ظن بقدرتي على الفعل أو قوة على التحول عن المعصية وهذه الحال اذا بلغها المرء وتحقق بها فقد تحقق بمعنى الافتقار الى الله ، واذا تحقق بحال الافتقار الى الله كان أغنى الناس .
والسر في هذا أنه نزع قلبه عن التعلق بهم ، لأنه عكفه على مولاه الذي شهد تمام تصرفه ونفوذ حكمه في كل شيء ، فما الناس؟ وما قوتهم ؟ وما غناهم ؟ وما يغني مدحهم أو ذمهم ؟ !!!!
ومتى نزع المرء قلبه عن التعلق بالناس فقد أحرز حريته الحقة ، لا كمن أحرز رقبته والفرق بين الحريتين واضح .
ولا يفهم من كلامنا ( نزع القلب عن التعلق بالناس ) بغضهم وكراهتم والعزلة عنهم ، فهذا مذموم في ديننا بل محرم فيه ، فأفضل الأعمال عند الله بعد التوحيد هو الاحسان الى الناس ومد العون لهم وحسن الظن بهم، ولكن المقصود هو أن لا يتعلق القلب بالناس تعلقا يجعله يستشعرهم عند العمل ، فتأسِرُه نظراتهم أو يحكمه حكمهم ، فينشط لمدحهم ويحبط لذمهم ، ويستحضر أشباحهم فيحسن عمله أو يتعب لينال المصلحة منهم بعمله أو يفوز برضاهم .
فالتحرر من الناس هو التحرر من هاجس الناس وليس من أشخاصهم ، فللناس هاجس يخيم على قلب كل واحد يدفعه أو يمنعه عن الفعل ، فيقدم اذا خشي لوم الناس ان تأخر ، ويتأخر إن خشي لوم الناس ان تقدم أو طمع في مدح الناس على فعله .
ولو سألته : من الناس ؟!! وأنت جزء من الناس ، وكل الناس يخشون هاجس الناس ولا يدرون أنهم الهاجس عند غيرهم من الناس !!!
فكيف يكون الناس هاجسا للناس ؟!!!
فالحرية هي الخروج عن هذاالهاجس وربط القلب بخالقه الخالق للناس والأحق بإخلاص العمل له.
هذا عن الحرية عن الناس .
أما الحرية عن الأعراض المادية والملذات أما الحرية عن الأعراض المادية والملذات ، فهي الخروج عن سلطان المكونات والمقصود بها : الملذات المادية التي يتوقف قيام الانسان عليها ، وهو لا يستغني عنها ضرورةً كالنوم والطعام والشراب والمركب واللباس والمتاع والمسكن وغير ذلك ، فالحرية عنها ليس بالخروج منها بالجملة فهذا مرفوض حسا وشرعا ، ولكن بالزهد عنها قلبياً أي جعل النفس فوقها تُسَخِّر هذه الأشياء لخدمتها ، لا أن تستخدمها هذه الملذات فتأسِرُ النفسَ في سجنها ، فتصبح النفس خادمةً لملذاتها تأتمر بأمرها وتنتهي بنهيها ولا تتحرك الا باشارتها ، وهذا يفقدها حريتها .
والاسترسال في هذا هو عين الرق ، لا كما يعده بعضهم أنه معنى الحرية لأنه يظن أنها ترك للنفس ترتاع كما تشاء ، حتى اذا علقت بشي يصعب انفكاكه عنه.