اعلم أن «التعقل» و«التعلم» صفتان حببتا الى المسلم(1) حتى صار يطلبهما في كل طريق ويقبلهما من كل جانب، ومازال يطلبهما من نفسه ومن غيره، حتى اطمأن اطمئنانا الى الأخذ بكلية المناهج العقلية والنتائج العلمية التي اختص بها «النمط المعرفي المعاصر».
ولئن سلمنا بأن المسلم يلزمه طلب الاتصال بالعقل والعلم فلا نسلم بأن يلزمه في تحصيل هذا الاتصاف الأخذ بمناهج العقل ونتائج العلم المنقولة من هذا النمط المعرفي المتداول، وذلك أ، هذه المناهج والنتائج أشبعت ـ من حيث يري المسلم أو لا يري ـ بمذهبي «الغير» في العقل والعلم.
ولسنا نعترض على هذه المناهج والنتائج لمجرد نسبتها الى الغير من حيث هو غير، فذاك لا يقول به عاقل، وإنما لأن مذهب هذا الغير فيها يقوم على مبادئ لا يمكن للمسلم أن يقبلها أو يدعو الى قبولها.
أولا – أزمات النمط المعرفي المعاصر:
1 ـ أصول النمط المعرفي المعاصر:
لقد قام النمط المعرفي منذ نشأته في مطلع القرن السابع عشر على أصلين اثنين يقضيان بقطع الصلة بصنفين من الاعتبارات التي تأخذ بها الممارسة الإسلامية.
أما الأصل الأول، فيمكن أن نصوغه كما يلي: «لاأخلاق في العلم». مقتضى هذا الأصل أن لكل واحد أن ينشئ بنيان نظريته حسب قرارات معرفية وإجراءات منهجية لا دخل فيها للاعتبارات الذاتية والعملية التي تصدر إما عن التسليم بقيم معنوية أو عن الأخذ بقواعد سلوكية مخصوصة.
وأما الأصل الثاني فيمكن أن نصوغه كما يلي: «لا غيب في العقل» ومقتضى هذا الأصل أن لكل واحد أن يركب من العلاقات أو يقيم من البنيات ما شاء إلا أن تكون بعض العناصر المرتبطة بهذه العلاقات الداخلة في هذه البنيات مما يخفى عن العين المجردة والمزودة، ولا تفيد في إدراكه تقديرات العقل المجرد، إما لكونه غير متحقق الآن، أو لكونه متحققا لكنه لا يظهر بوجوده الظهور المعلومة.
1 ـ 1 – أزمة الصدق:
لقد ترع عن الأصل الأول الذي يقول بفصل العلم عن الأخلاق المبدأن المشهوران:
أ – مبدأ الموضوعية: الذي يقضي بأن يكون النظر العلمي مستقلا كل الاستقلال عن آثار الذات الانسانية. ولما كان هذا الاستقلال، في الحقيقة، إدعاء بعيد التحقق، عسير الإثبات، اخترنا أن نسميه بمبدأ «الموضوعية الميتة»، تمييزا له عن مبدأ يأخذ بموضوعية «حية» تقصد قصدا أن تشترك قيم الذات الداخلية ومدركات النظر الخارجية في تأسيس المعرفة تأسيسا موجها (بفتح الجيم) ومقوما (بفتح الواو)، لا تأسيسا مجردا.
ب – مبدأ التجاوز الذي ينص على أن لا أخلاق في المنطق. فلكل إمرىء أن يبني منطقه كما شاء، لا يتقيد في ذلك إلا بأن يبين، عند الاقتضاء، مناهجه وقواعده فيما اتخذ من منطق. ولما كان هذا المبدأ يسقط إسقاطا كليا، الاعتبارات العملية، اخترنا أن نطلق عليه مبدأ «التجاوز المسيب» تمييزا له عن مبدأ يأخذ بتجاوز «موجه» (بفتح الجيم) يقصد قصدا إلى أن يشرك الجانب العملي مع الجانب النظري في تركيب النسق المنطقي والرياضي.
وهكذا باسم مبادئ توهم بالنزاهة والسماحة يقع تمجيد العلم الحديث، بل وتقديسه، وينال حظوة ما بعدها حظوة في قلوب بعض علماء المسلمين أنفسهم، ولا أدل على هذا الإيهام من أن هذه المبادئ التي ترسخ دفة الانقطاع عن القيم الأخلاقية، لم يقتصر العمل بها على مجال العلوم النظرية كما أراد ذلك أهلها في مرحلة التأسيس، بل جرى أخذ بها في مجال العلوم العملية نفسها حيث أخرجت أفعال الإرادة الانسانية الحية على مقتضى الوقائع الجامدة، ثم انتقل العمل بها الى المجالات غير العلمية مثل الفكر والأدب، حتى صار المثقف، مفكرا كان او أديبا، يعتقد مشروعية هذا الانفصال وضرورة الالتزام به، ويتجلى هذا الاعتقاد في الادعاءات الثلاثة الآتية:
– أن القول الحق قد يصدر عن القائل ولو لم يعمل به.
– أن الفعل ليس شرطا في قبول قول القائل.
– أن تقويم قول القائل من جهة أفعاله مسلك غير مشروع. ولا يخفى أن هذه الادعاءات تزكي الانصال بين القول والفعل. ولما كان هذا الانفصال أثرا م آثار مبدأ «الموضوعية الميتة» ومبدأ «التجاوز المسيب»، فقد دخلت على المعرفة المعاصرة، على اختلاف أساليبها وتنوع محتوياتها، آفة الإخلال بشروط الصدق، علما بأن الصدق هو مواطأة القول للفعل، فلا نعدو الصواب إذ ذاك إن قلنا بأن المعرفة المعاصرة تعاني أزمة حادة هي باصطلاحنا «أزمة صدق»
1 ـ 2: أزمة القصد:
لقد تفرع عن الأصل الثاني الذي يقول بفصل العقل عن الغيب المبدأن المشهوران:
أ – مبدأ السببية الذي يقضي بأن يكون لكل ظاهرة سبب محدد. وما كان القول بالسببية يلزم عنه أن «الإمكان» أو «الجواز» لا محل له في الممارسة العقلية المشترطة في العلوم، آثرنا ان نسمي هذا المبدأ بمبدأ «السببية الميتة»، حتى نفرق بينه وبين مبدأ يأخذ بسببية «حية» تتزاوج فيها الضرورة والإمكان، كما يتزاوج فيها التوجيه الذي يضبط العلاقة السببية، فتكون موجهة من جانب المسبب كما هي موجهة من جانب السبب، وإن اختفت صورة هذا التوجيه من أحدهما الى الآخر.
ب – مبدأ الآلية: الذي ينص على ان كل ظاهرة لا تحددها إلا أوصاف خارجية نتحكم فيها تحكما. ولما كان القول بالآلية يلزم عنه أن الممارسة العلمية تجمد على الظاهر، ولا تتطلع الى ما وراءه من الوجوه الخفية، والى ما بطن من الأسباب الممتنعة عن المراقبة، آثرنا أن نطلق هذا المبدأ اسم: «الآلية المسببة»، حتى نفرق بينه وبين مبدأ يأخذ بآلية «موجهة» (بفتح الجيم) يتزاوج فيها التحكم في ظاهر الأشياء مع الاحتكام الى باطنها لتزاوج الأوصاف العلنية مع المقاصد الخفية، وتزاوج العلل المشهودة مع الحكم المبثوثة.
وإذا دققنا النظر في المعنيين الغيبيين: «الجواز» الذي يخرجه مبدأ السببية الميتة، و«الباطن» الذي يخرجه مبدأ الآلية السببية، تبين لنا أن المعرفة المعاصرة تكابد أزمة ثانية تضاهي في حدتها أزمة الصدق التي نشأت عن القول بانقطاع العلم عن الأخلاق، ذلك أن «الجواز» له تعق «بالإرادة»، وأن الظـواهر التي يستقرئ العلم الوضعي أسبابها هي من صنع الإرادة الالهية التي تعلقت بهذه الأسباب، وكان بالإمكان أن تتعلق بأسباب غيرها لو شاءت هذه الإرادة أن تكون الظواهر على غير ما هي عليه، أو شاءت أن يدركها الانسان على غير الوجه الذي أدركها عليه، كما أن «الباطن» الذي يقترن بظاهر الأشياء، له تعلق بالغاية التي انيطت بكل ظاهرة.
ومعلوم أن مدلول «الإرادة» الذي يتعلق به الإمكان ومدلول «الغاية» الذي يتعلق به الظاهر هو بالذات معنى «القصد». فالإرادة هي، على التعيين، ممارسة السلوك القصدي، والغاية ليست الا المقصد الذي يستهدفه هذا السلوك، فتكون بذلك الأزمة التي أصابت المعرفة المعاصرة بسبب تزكية الانفصال بين العقل والغيب هي باصطلاحنا: «أزمة قصد».
حاصل القول في النمط المعرفي المتداول ان نتائجه العلمية، لما كانت لا تؤدي بصاحبها الى طلب الأخلاق، ولا يعنيها أمر الوصول الى التحلي بها، فقد ورثت الآخذين بها أزمة صدق، كما أن مناهجه العقلية، لما كانت لا تحمل صاحبها على التطلع الى الغيب، ولا يعنيها أمر الوصول الى اليقين بشأنه، فقد ورثت الآخذين بها أزمة قصد، ومتى ثبت أن المعرفة المعاصرة تكابد أيما مكابدة أزمتين اثنتين: «أزمة صدق» و«أزمة قصد»، احتاج المسلم، الذي عليه واجب العمل بالاعتبارات الخلقية والتوجهات الغيبية، أيما احتياج، الى أن يقي نفسه شر هاتين الأزمتين، ما قرب منها وما بعد، فكي إذن السبيل الى دفعهما واتقاء سوء آثارهما، حتى يستقيم له تحصيل نمط معرفي غير منقطع عن المعاني الخلقية ولا منفصل عن الحقائق الغيبية؟
2 ـ وسائل الخروج من أزمات النمط المعرفي المعاصر
2 ـ 1: طريق التنقيح والتخريج
رب قائل يقول بان مسلك التصحيح النظري كاف لإخراجنا من هاتين الأزمتين ووقايتنا من شرهما. ويقوم هذا التصحيح في عمليتين اثنتين: إحداهما، تنقيح المناهج العقلية، حتى تصير موافقة لمقتضيات الإذعان للغيب، والثانية، تخريج النتائج العلمية، حتى تصير آخذة باسباب السلوك الخلقي. نرد على هذه الدعوى من الوجوه الثلاثة الآتية:
أحدها أن الوسائل العقلية والمضامين العلمية المنقولة تشكل نسقا يشد بعضه بعضا، بحيث يحكمه منطق خاص لا تضره محاولة الاستقلال بعنصر من عناصره والاشتغال به في غير مجاله، لأن روح المنطق المبني به هذا العنصر في الأصل تنتقل معه، ولا تلبث أن تؤثر في إجرائيته في مجاله الجديد، فيصير ضرره أكثر من نفعه.
والثاني أن هذا التصحيح يوقع في الإلزام بما لا يطاق، ذلك أن مدعي القدرة عليه واقع لا محالة في دور فاسد. فالتنقيح والتخريج اللذان يزعم لنفسه الاقتدار عليهما، لا يستقيمان إلا بسلوك طريق في العقل والعلم يختلف عن طريق النمط المعرفي المنقول، ولو كان هذا الطريق قد انفتح له لاستغنى به عن الدخول في عمليات تصحيحه، ولما لم يكن كذلك، انساق انسياقا في العمل بالطريق المنقول في إنجاز مشروعه التقويمي، فيجيء تنقيحه وتخريجه حاملين لآثار الانقطاع عن القيم الخلقية والمعاني الغيبية كما حملها ذلك الطريق.
والثالث أن مسلك التصحيح المزعوم يبقى مسلكا نظريا جزئيا لا يرقى الى مستوى الفعالية والشمول اللذين يقتضيهما الخروج من الأزمتين المذكورتين. فليس النظر العقلي الذي يقوم عليه هذا التصحيح إلا واحدا من الأفعال التي تشترك في إنشاء المعرفة، بل ليس العقل نفسه إلا واحدا0 من الأفعال الإدراكية مثله مثل الإبصار والسمع(2) وقد يطلق على حاصل هذا الفعل الإدراكي، فيكون مرادفا لمجموع المعقولات. ولما مل يزد العقل عن كونه فعلا أو نتاجا لهذا الفعل، فإنه يظل مظهرا محدودا وجزئيا لا يفيد تأثيره إلا إفادة ظاهرة وعابرة، بينما يحتاج في الخروج من الأزمتين الى تأثير بعيد النفوذ وبالغ الرسوخ.
ومتى تبين أن مسلك التنقيح والتخريج غير كاف في استرجاع المعرفة للقصد والصدق، لزم طلب طريق آخر يحصل تحصيلا الجمع بين العلم والاعتبارات الخلقية، ويوصل توصيلا الى الجمع بين العقل والتوجهات الغيبية، أما الجمع بين العلم والاعتبارات الخلقية فهو بالذات مقتضى مبدأ «العلم النافع» عند المسلمين، فالعلم النافع هو ما كان باعثا عن العمل، ومعلوم أ، مصطلح «العمل» في الإسلام يتسع للدلالة على جميع الممارسات والسلوكات(3). وأما الجمع بين العقل والتوجهات الغيبية، فهو على التعيين مقتضى مبدأ «العقل الكامل» عند المسلمين، فالعقل الكامل هو ما كان مفضيا الى القرب من الله(4). وعلى هذا الطريق الذي ينبغي أن نطلبه حتى نحقق به ما عجز عن تحقيقه مسلك التنقيح والتخريج هو طريق العقل الكامل والعلم النافع، فكيف نحصل على هذا الطريق المتميز؟
2 ـ 2: طريق العقل الكامل والعلم النافع
حقا لو نحن وضعنا في الاعتبار ما بله من أنسنا العقل المقطوع عن العمل أو قل، باصطلاحنا، «العقل المجرد»، حتى صرنا نحسب القرب في الجهة التي يستدرجنا منها الى البعد، وما بلغه منا العلم المقطوع عن الغيب أو قل باصطلاحنا «العلم المجرد» حتى صرنا نحسب النفع في الجهة التي يستدرجنا منها الى الضرر، فلا نكاد نتصور إمكان تحقيق الانفصال عنهما واتخاذ غيرهما، مما نأمن فيه من الاستدراج الى نقيض مرادنا.
كما أننا لو أخذنا بعين الاعتبار المحمل الموسع الذي نحمل عليه «العقل الكامل» و«العلم النافع» فإننا لا نكاد نستبين كيف السبيل الى تحصيلهما.
فإن العقل الكامل، عندنا، لا ينحصر في القدرة على تمييز الأفعال وتمييز ما جاء من أحكام الشرع المتعلقة بها كما ينحصر اصطلاح «العقل التكليفي» في الدلالة عليها. ولا يقتصر العلم النافع عندنا، على العلم المتعلق بالإحاطة بالأدلة التفصيلية والإجمالية للأحكام الشرعية كما يقتصر اصطلاح «العلم الشرعي» على إفادة ذلك دون سواه. ذلك أن القول بالعقل التكليفي يوهم بوجود عقل غير تكليفي نسميه بـ«العقل التشريفي» وقد يختص بالنظر في الآيات الكونية، بينما القول بالعلم الشرعي يوهم بوجود «علم وضعي»، وهذا بالذات ما ساد الاعتقاد به.
وعلى هذا، فواحد من أمرين: أما الأمر الأول فهو أن نوسع مفهوم العقل «التكليفي» بحيث يصير شاملا لكل الأفعال العقلية سواء ما تعلق منها بالمسالك الايمانية: العقدية والعبادية، وبالمعاملات الانسانية أم ما تعلق منها بالعادات الكونية. حتى لا يقل تكليف الانسان في اكتشافه لقانون من قوانين الكون مثلا عن تكليفه في اداء واجب من واجبات العبادة، فيستشعر من القرب في هذا ما يستشعره في ذاك، وأن نوسع أيضا مفهوم «العلم الشرعي» بحيث لا يخرج عنه أي معلوم سواء أتعلق بمدركات الغيب خبرية كانت أم قلبية، أم تعلق بمدركات الشهادة، حسية كانت أم نظرية، حتى لا يقل شعوره بالتبعية للحقيقة الشرعية فيما يلاحظ أن يفترض أو يبنى من معلومات كونية عن شعوره بها فيما يقوم به من أعمال التقرب المفروضة، فيجد من النفع في هذه ما يجده في تلك. أما الأمر الثاني، فأن نجعل «العقل الكامل» جامعا لمعنى «العقل التكليفي» ومعنى «العقل التشريعي»، على اعتبار أ، التكليف متعين فيهما معا، إلا أ، هذا التعيين ظاهر وصريح في الأول وتابع ومضمر في الثاني، وأن نجعل أيضا «العلم النافع» جامعا لمعنى «العلم الشرعي» المتعلق بمضامين العقل التكليفي ولمعنى «العلم الوضعي» المتعلق بمضامين العقل التكليفي ولمعنى «العلم الوضعي» المتعلق بمضامين العقل التشريفي، على أساس أ، مقاصد الشريعة متحققة فيهما معا، غير أن هذا التحقق سمعي وقلبي في الأول، وحسي ونظري في الثاني.
وهكذا، فسواء أوسعنا مفهوم «العقل التكليفي» ومفهوم «العلم الشرعي» أم عممنا معنى «العقل الكامل» ومعنى «العلم النافع» فلسنا نزداد بذاك التوسيع ولا بهذا التعميم إلا ميلا الى استبعاد إمكان تحصيل الطريق المطلوب في إقامة معرفة إسلامية غير مشوبة ولا مشبوهة.
2 ـ 3: شمول ورسوخ التجربة الروحية
يبدو من العسير تصور تحصيل مطلوبنا العقلي والعلمي ما لم نطمح الى أبعد من القيام بعمليات جزئية وضحلة لا تنال كثيرا من النمط المعرفي الذي تولت السنون والقرون تثبيته فينا كعمليات التصحيح تنقيحا وتخريجا، التي تجعلنا نجزئ هذا النمط المعرفي لننتقي ما نعتقد صلاحه ونسقط ما نعتقد فساده، أو نجزئ الذات العارفة، فنتخير منها النظر العلي المجرد من دون بقية الأفعال الأخرى التي تشاركها إنشاء المعرفة.
ولا ينفع في بولغ غرضنا هذا إلا الدخول في تجربة حية تنال كلية الانسان، وتبلغ من القوة والرسوخ درجة تفوق قوة ورسوخ النمط المعرفي الموروث، بحيث تجب ما قبلها جبا. ولا تجربة بهذا الوصف الشمولي والجذري ممكنة ما لم تتعلق بذات الانسان نفسها وليس بفعل من أفعاله أو وصف من أوصافه فحسب، لأن الذات تصدر عنها الأفعال صدور الآثار وتظهر منها الصفات ظهور التجليات، ولأن كل تجربة لا تحياها إلا الذات، ما الفعل أو الصفة، فلا يقال عنه إنه يحيا التجربة الا على سبيل التجوز، كما إذا اطلق لفظ المسبب وأريد به السبب، وليست الحقيقة الذاتية الحية للانسان، التي تكون الأفعال الإدراكية صادرة عنها، وتكون الأوصاف الخلقية ظاهرة منها، إلا ما اصطلح عليه باسم «الروح».
وليس لنا أن نخوض في معاني الروح ولا في اوصافها ولا في مآلاتها، معاشا ومعادا، كما خاض فيها غيرنا من قبل بطريق الخبر أو بطريق الخبرة أو بطريق الفكرة، فلم نؤت من العلم الا القليل(5). وحسبنا هنا ان نذكر حدا لها قامت عليه شواهد قطعية من الطرق الثلاث، وهو:
«أن الروح نفخة ربانية خرج بها الانسان من ظلمة العدم الى نور الوجود، ومن عموم الوجود الى خصوصه بالتكريم الإلهي لفطرته».
وإذا صح أن ارسخ التجارب أصلا وأشملها أثرا، بحيث تقوى على جب ما قبلها، لابد أن يكون محلها الروح التي تظهر آثارها في الأفعال الإدراكية، وتظهر تجلياتها في الأوصاف الخلقية، صح معه أن كل طريق يأخذ بالتجربة الروحية الشاملة والراسخة، من شأنه أن يفتح لنا باب تحصيل مرادنا من الجمع بين العلم والأخلاق والجمع بين الغيب والعقل. ولا طريق أقرب الى القدرة على فتح هذا الباب من «التربية الروحية» إذ هي «التنشئة وفق مناهج عقلية ونتائج علمية تستمد الأولى كمالها وتستمد الثانية نفعها من نور الفطرة التي كرمها الله تكريما»
فكيف تتمكن التربية الروحية من تزويدنا باسباب العقل الكامل والعلم النافع؟
اعلم أن من أركان التربية الروحية ركنين أساسيين: أحدهما تحصيلي عرف باسم «ركن القدوة»، أو قل باصطلاحنا «النموذج الصادق» والثاني توصيلي عرف باسم «ركن الإشارة»، أو قل باصطلاحنا «التعبير القاصد». وغرضنا بهذا الصدد ان نستدل على دوى ندعيها بشأن هذين الركنين التربويين، وهي: «ان الركن التحصيلي من التربية الروحية، او القدرة، يتعهد بالتربية على الصلة بين العلم والأخلاق، بينما يتولى الركن التوصيلي منها أو الإشارة، التربية على الصلة بين العقل والغيب».
وليس من سبيل الى تحصيل التربية على الجمع بين العلم والاخلاق إلا إذا تمكن القدوة من إخراجنا من أزمة الصدق التي تولدت عن الفصل بينهما، ولا يتمكن من ذلك إلا إذا تحلى هو بأحسن صور الصدق، كما أنه لا سبيل الى تحصيل التربية على الجمع بين العقل والغيب إلا إذا تمكنت الإشارة من إخراجنا من أزمة اقصد التي تولدت عن الفصل بينهما، ولا تتمكن من ذلك إلا إذا اتصفت هي بأحسن صور القصد.
وحتى نتحقق من الوظيفة الصدقية المتميزة للقدوة والوظيفة القصدية الخاصة للإشارة، نلتزم معايير إجزائية ثلاثة ضابطة لمثل هذا التحقق، وهي: «معيار الطبيعة» و«معيار الأصل» و«معيار الغاية» فننظر في السلوك الصدقي للقدوة هل هو صادق في طبيعته وصادق في أصله وصادق في غايته؟ ثم نمضي الى التعبير القصدي للإشارة فننظر هل هو قاصد في طبيعته وقاصد في اصله وقاصد في غايته؟
ثانيا: المقتضيات التحصيلية والتوصيلية للتربية الروحية
1 ـ سلوك القدوة والتحقق بالصدق:
1ـ 1: الطبيعة الصادقة للقدوة:
أما عن طبيعة سلوك القدوة، فاعلم أن القدوة لا يتصدى لمهمة التربية الروحية (التي هي التنشئة وفق مناهج عقلية ونتائج علمية مزودة ومسددة بنور الفطرة) إلا اذا تحقق بمعنى العمل، والمقصود بالتحقق بالعمل ليس مجرد «الاشتغال» أي الدخول في العمل الشرعي، وإنما الاستغراق في الاشتغال والنزول في مراتب العمل، وتحصيل الملكة في الانتقال بين هذه المراتب حتى يصير العمل وصفا راسخا لا ينفك عن مجموع حركاته، إن قولا أو فعلا، إشارة أو حالا.
ومن تغلغل في العمل الى أن صار العمل صفة قائمة به، يكون قد تزود بمنطق سلوكي تخالف معاييره معايير سلوك من بقي دون هذا التغلغل، وبالأولى سلوك من انقطع عن العمل.
1 ـ 1 ـ 1: مبدأ أسبقية الفعل عن القول
من المعايير المنطقية التي سادت النمط المعرفي المنقول والتي كانت أثرا من آثار الانقطاع عن الأخلاق، مبدأ «أسبقية القول على العمل»، الذي اتخذ صورا تختلف باختلاف وجوه طرحه الإشكالي، منها: «أسبقية النظر على العمل» و«أسبقية المنطق على الوجود» و«أسبقية العقل على التاريخ»، بينما القدوة المربي يكون له من رسوخ القدم في العمل ما نعتمده في إبطال هذا المبدأ، وفي نسبة عكس هذا المبدأ الى سلوكه، فهو وإن كان لا يقول كل ما يفعل فإنه لا يقول إلا ما يفعل، كأنما يسبقه الفعل الى القول، لكمال استغراق حركاته في الاشتغال.
1 ـ 1 ـ 2 ـ مبدأ تباين الإتباع والاتفاق
من المعايير المنطقية المتداولة أيضا مبدأ المطابقة بين مدلول «اتباع القاصدة» ومدلول «الاتفاق مع القاعدة»، بمعنى أن من يتبع قاعدة في الوصول الى مطلوب معين، لا يزيد اتباعه عن كونه متفقا مع ظاهر الضوابط التي تنص عليها القاعدة، وما كان هذان الوجهان فيه سواء، كما أقل ان ينفع في تحصيل المدلول العملي. اما القدوة التي أشربت نفسه عملا، فتشان عنده بين «الاتباع» و«الاتفاق»، فالاتفاق يدخل عليه التقصير، لأن الذي يأتي الفعل متفقا، إما ان يكون مصادفا له من غير أن يريده، وإما أن يكون مقلدا له، من غير أن يعقله، فإن كان الأول فقد فاته العمل، وإن كان الثاني فقد فاته العلم، بينما «المتبع» لا يدخل عليه هذا التقصير، لأن الإرادة والتعقل لا ينفكان عن الفعل الموصوف بالاتباع، فالذي يأتيه يحصل بقصده الإرادي فائدة العمل وبدليله العقلي فائدة العلم، فيكون الانتفاع من نصيبه وحده، لا من نصيب المتفق، مصادفا كان أم مقلدا.
1 ـ 1 ـ 3: مبدأ دلالة الداخل على الخارج
من المعايير السلوكية المنقولة كذلك المبدأ الذي ينص على أن «الخارج دال على الداخل» مع الاختلاف في تقرير طبيعة هذه الدلالة بين الآخذين به اختلافا كبيرا، اما القدوة الذي يكون العمل قد لابس جوانحه حتى استعدت للتأثير في الجوارح وفي مداركها، فإن المبدأ الذي ينضبط به سلوكه هو أن «الداخل دال على الخارج»، مع حمل هذه الدلالة على معنى واحد هو «التجلي». ومعلوم أن كل معنى متجل، يستغني بظهوره عن الاستدلال عليه والاحتجاج عليه، لأنه لا خلاف فيه.
وإذا ثبت أن سلوك القدوة محكوم بالمبادئ العملية الثلاثة: «مبدأ أسبقية الفعل على القول، و«مبدأ تمايز الاتباع عن الاتفاق» و«مبدأ دلالة الداخل على الخارج»، تبني أن القدوة يحقق الصدق من جهة طبيعة سلوكه، ذلك ان «مبدأ أسبقية الفعل على القول» يمكنه من الصدق في أقواله، بينما يمكنه مبدأ تمايز الاتباع عن الاتفاق من الصدق في إرادته وأدلته ويمكنه «مبدأ دلالة الداخل على الخارج» من الصدق في تقلبه في مراتب العمل(6).
1 ـ 2 ـ الأصل الصادق للقدوة
أما عن أصل سلوك القدوة، فإن أقواله إذا طالبت أفعاله، لما هو عيه من الصدق في الأفعال والإرادة والأدلة والمراتب العملية، فليست هذه المطابقة ثمرة النظر المجرد في النصوص الأصلية، وإنما هي ثمرة عمل حي يتجلى في أمرين إثنين هما: «مراقبة السلوك» و«التعلق بالدلالة العملية للنص».
1 ـ 2 ـ 1 ـ مراقبة السلوك
إن القدوة يكون قد دخل في عملية توجه لسلوك مشخص صادر عن عاقل عامل عملا حيا سبق أن تحقق بالمطابقة، ومعلوم أن هذا التوجه يفيده كيفيات في العمل، لا يمكن أن تكون تفاصيلها كلها مبثوثة في النصوص، وما كان مبثوثا منها في هذه النصوص، فلا يفيد بيانا كافيا للعمل، بل قد يتعرض لتحريف ويحمل على وجوه غير وجهه الحقيقي. وبهذا يكون القدوة قد أخذ المطابقة من مراقبة قدوة سابق بدون انقطاع وعلى خير الوجوه، قدوة أخذ هو بدوره عن غيره بنفس الطريق، وهكذا صعدا الى النموذج الانساني الأكمل صلوات الله عليه(7)، فيكون لمطابقة القدوة سند عملي متصل.
وليس غريبا إذا ذاك، أن يتولى القدوات تحرير أسانيدهم ورفعها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حرصا منهم على بيان أصولهم العملية، وتحقيق الوراثة السلوكية، كما أنه ليس من الغريب أن يتحرى المقتدون بهم طلب من اتصل سنده بالنموذج الأكمل، حرصا منهم على الأخذ ممن كان أكثر الناس تحققا بالمراقبة الفعلية لسلوك السلف، وأكثرهم تخلقا بفوائد هذه المراقبة، فلا اقتداء إلا لمن كان سلوكه ثمرة ملاحظة مباشرة وائمة لأفعال نموذج حي لأنه ينقله بالسند المتصل الى مراقبة سلوك الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام.
1 ـ 2 ـ 2 ـ التعلق بالدلالة العملية
لما كان القدوة قد شد نفسه شدا الى مراقبة السلوك النموذجي، فإن كلية مداركه تكون قد اصطبغت بآثار هذه المراقبة الحية، فيكون عندئذ فهمه للنصوص الأصلية مغايرا لفهم من لم يدخل قط في هذه المراقبة، ويتجلى هذا الفهم المغاير في الأمرين التاليين.
أ ـ تحققه من الدلالة العملية للنصوص الأصلية، فكل معنى يأخذه من هذه النصوص لا ينزل عنده منزلة الفكرة المجردة التي تنتظر أن ينضاف اليها حسن النية وقوة العزيمة ومضاء الإرادة لتنتقل الى مجال التطبيق الذي قد يبدل فيها أو يحرف، وإنما يكون عنده بمنزلة القيمة المعتبرة. ومعلوم أ، القيمة هي الأمر المعتقد الذي يستوجب منها أن نطلبه وأن نسعى اليه ونسلك وفقه.
ب ـ تلبسه بالقيم المأخوذة: لما كان استهلاك القدوة في المراقبة الحية يفضي به الى حمل معاني النصوص على مدلول القيم العملية، فإنه يبادر الى تقمصها بحيث تشاهد جارية على أفعاله من غير تعمد ولا تعمل.
ويكفي هذان الأمران: التحقق من الدلالات العملية للنصوص والتخلق بالقيم المأخوذة منها لتجعل القدوة قريبا من الأصول الاسلامية قرب عمل وحال لا قرب نظر ومقال.
ومتى حضر مع هذه الأصول بعقله العملي لا بالنظر المجرد كان أبصر الناس بأخبارها وأحكامها، إذ يكون فهمه لها فهما بالحضرة لا فهما بالفكرة. وشتان بين فهم مستنير بنور الاشتغال وفهم منقطع عن الاشتغال.
ومتى كان القدوة يأخذ تحقه بمطابقة الأقوال للأفعال بطريق المعاينة لنموذج سالف، وبطريق الوقوف على الدلالة العملية للنصوص، أدركنا أن يقوم القدوة بشرط الصدق من جهة الأصل الذي أخذ منه المطابقة ذلك أن المعاينة الحية تزوده بالصدق فيبصره، بينما يزوده التعلق بالدلالة العملية بالصدق في بصيرته.
1 ـ 3 ـ الغاية الصادقة للقدوة
أما عن غاية سلوك القدوة، فإن القدوة ينقل مطابقة القول للفعل الى الغير، وينقلها اليه بطريق لا يقل التزامها بتجربة العمل الحي عن الطريق الذي أخذ بها هو هذه المطابقة عن غيره، ويتجلى هذا الالتزام في أمرين اثنين، هما «الاجتهاد الحي» و«القبول المؤيد».
1 ـ 3 ـ 1 ـ الاجتهاد الحي
إذا لبست المعاني القدوة،واتحدت بها جوارحه وتفاعلت بها أحواله، تجددت مداركه العقلية والوجدانية، وقامت بها أسباب الإنتاج والإبداع. ومن يكن بهذا الوصف، يكن اجتهاده من الداخل، سواء من داخل الظرف الذي يحتضنه أو من داخل النص الذي يتأمله أو من داخلهما معا. فأما الظرف، فإن القدوة يأخذه من جوانبه الفاعلة والمنهضة الى العمل، ويتصرف فيه بمقدار فعالية هذه الجوانب وإنتاجيتها وبمقدار حاجته العملية منها، وأما النص، فيتناوله في دلالته التي تفتحه على أسباب تتعدى اسباب وروده والتي تجعله يحيا في قلوب العامين به، وأما اجتماع الظرف والنص، فيتخير القدوة وجوه تنزيل أحدهما على الآخر من جهة ما يختزنان من قوة عملية، سواء بإخراج الظرف عن آيته، أو بإخراج النص عن ظاهريته، إيمانا منه بأنه ليس كل ما جمد في الظرف لا يمكن تحريكه، ولا كل ما سكت عنه ظاهر انص لا يمكن استنطاقه.
ومتى كان القدوة يأخذ بالأسباب الحية الكامنة في الظروف والنصوص، والباعثة على تجددها وعلى استمرار هذا التجدد، كان أوفق وأكمل مجتهد وأحق من غيره بأن يقتدى به.
1 ـ 3 ـ 2 ـ القبول المؤيد
لما كانت المعاني قيما سامية مطلوبة، ومثلا علي محبوبة، وكان القدوة متحققا ومتخلقا بها في جميع جهاته الظاهرة والباطنة، انعكس عليه وصفها وقدرها، فصار عن الناس مطلوبا ومحبوبا مثلها. وذا طلبوه، فلا يطلبون فيه إلا المعاني التي تمثلت فيه خير تمثيل، ولا تكون استجابته لهم الا بصرف شخصه الحسي ودواعيه البشرية عن هذه المعاني. وإذا أحبوه فلا يحبون فيه الا جمال وكمال هذه المعاني، ولا تكون محبته لهم الا بإرشادهم الى طريق التقرب منها والتخلق بها. فليس لهذا الطلب ولا لهذه المحبة أية دلالة مادية تتصل بشخص من الأشخاص أو بغرض من الأغراض، وانما هي دلالة معنوية محض تخرج بالطالب أو بالمحب الى عالم يذوق فيه ثمرة الأعمال ولذة الأفضال.
ومتى كان القدوة مأخوذا عن الإحساس بشخصه وبنفسه وبأغراضه، مستغرقا بالكلية في المعاني الروحية، كان الإقبال عليه إقبالا على هذه المعاني والتشبه به تشبها بها.
وإذا تقرر أن القدوة ينقل تحققه بمطابقة القول للفعل بطريقين: طريق الاجتهاد الحي وطريق القبول الذي يوضع له، اتضح أن القدوة يستوفي شرط الصدق من جهة نقل المطابقة أو قل، غايتها، ذلك أن الاجتهاد الحي يضفي الصدق على تجديده في التربية بينما القبول الموضوع له يضفي الصدق على تقريبه لحضرة الله.
والآن، وقد عرفنا كيف أن القدوة لا يزال صادقا ويتحرى الصدق في حركاته وسكناته، هذا الصدق الذي ادعينا أنه يزود الكائن مع القدوة(8) او قل المقتدي، بالقدرة على إنشاء نمط من المعرفة، محفوظ من آفة الانفصال بين العلم والعمل، أي نمط من المعرفة «النافعة»، بقي لنا أن نعرف كيف أن النموذج لا يزال قاصدا ويتحرى القصد في جميع إشاراته، هذا القصد الذي ادعينا أنه يمكن الكائن مع القوة من القدرة على إنشاء نمط من المعرفة محفوظ من آفة الانفصال بين العقل والغيب، أي نمط من المعرفة «الكاملة»
2 ـ التعبير الإشاري والأخذ بالمقاصد
2 ـ 1 ـ الطبيعة القاصدة للإشارة
أما عن طبيعة القول الإشاري، فاعلم انه لما كان هذا القول مقابلا للعبارة، من حيث أنه يدل على معناه دلالة غير مباشرة، بينما تدل هذه على معناها دلالة مباشرة، فإن هذا المعنى غير المباشر يتميز بوصفين هما: أنه يرتبط ارتباطا «بالسلوك العملي» وأنه ينتقل انتقالا بطريق «التواتر الحي».
2 ـ 1 ـ 1 ـ المعنى والارتباط والعمل
إن حقيقة المعنى الإشاري تقوم في كونه دلالة عملية خالصة، والمقصود بالدلالة العملية أن التعبير المبلغ يفيد أمرا ينبغي لمخاطب اتباعه أو إنجازه في ظرف سلوكي مخصوص يعينه مقام الكلام. وإذا ثبت أن المعنى يتوجه بالمقتدي الى العمل، ثبت أيضا ان المعنى هو أصلا قيمة، ومدلول القيمة انها كل أمر استح في نظر فرد أو طائفة التعلق به والسلوك وفقه.
ولا عجب إذ ذاك أن يتواجد المعنى مع الدلالة الظاهرة للقول، لأنه لا يعارضها، حتى يكون دلالة إضافية تتنازع معها المحل وانما هو القيمة العملية التي تلابس الدلالة الظاهرة في سياق الكلام، علما بأنه لا آنفكاك للتعبير عن التوجيه، والتوجيه هو بالذات المعنى.
وليس المعنى قيمة وحسب، بل هو قيم مقرونة اساسا بالممارسة الحية، فالأقوال التي تلقى الى المقتدي تنعكس فيها آثار هذه الممارسة، فيدل منها الوجوه التي توافق هذه الآثار، وتواصل تزكيتها في نفسه.
ومما يزيد في إثبات الدعوى بعدم معارضة القيمة أو المعنى لظاهر التعبير أنها تتغير بتغير مراتب هذه الممارسة، وتظل الدلالة الظاهرة واحدة، بينما تتعدد قيمها.
وليس في هذا التعدد القيمي، ما يدعو الى الظن بإغراق الظاهر في التأويل، ولا بإخراج الباطن عن كل القيود اللغوية، حتى وإن لم يكن بين الظاهر والقيمة أدنى تلازم منطقي.
2 ـ 1 ـ 2 ـ المعنى والانتقال بطريق التواتر الحي
إن حقيقة التواتر الحي تقوم في نقل الخبر عن القدوة عبر وسائط مختلفة تدل به على نفس المقصود الذي دل عيه القدوة به، بوصفه أكثر الناس تحققا به، بحيث يجعل اتصال السند الى القدوة فائدة الخبر متعلقة أصلا بهذا النموذج لا بالقول المنقول عنه.
ولما كان مرجعنا في فهم الخبر هو النموذج المنقول عنه وليس القول المنقول، جاز أن يحصل الاختلاف بين الخبر والمخبر (بفتح الباء) به، من غير أن ينقطع الخبر عن الدلالة على المخبر به وأن يفيد العلم به، كالاختلاف الحاصل من تعدد الخبر بتعدد الطرق التي نقل من جهتها والمخبر به واحد، وكالتفاوت بين الوضع الاصطلاحي الأصلي للخبر وبين المدلول المخبر به، وهذا بالذات مقتضى القول الإشاري.
واذا صح أن الخبر المتواتر يدل على حقيقة المخبر به وإن لم يقم بالشروط المطلوبة للخبر، لأن المعلول عليه هو خبرة النموذج بالمخبر به واتصال السند اليه، صح معه أيضا أن يكون القول الإشاري مفيدا للمخبر به على تفاوته مع ظاهر هذا القول.
ومتى ثبت أن الاشارة يدخل عليها العمل من كل جانب وأن صحة دلالتها تتوقف على طريق التواتر الحي، تبين أن طبيعة التعبير الاشاري طبيعة معنوية قصدية، فالعمل لا يكون عملا إلا بالقصد الذي يقترن به، والتواتر لا يكون تواترا إلا بالحفاظ على قصد النموذج الأصلي، ولا عجب عندئذ أن يختص المدلول الإشاري أو يكاد باسم «المعنى»، فالمعنى، لغة، هو ما يعنى باللفظ أي، بالذات، ما يقصد به.
2 ـ 2 ـ الأصل القاصد للإشارة
أما عن أصل التعبير الإشاري، فليس مدلول الإشارة مدلولا معنويا أي عمليا وتواتريا فحسب، بل هو أيضا مدلول تجربي، وتتميز «التجربة» التي يستند اليها هذا التعبير بأنها:
أ ـ تجربة وجودية لا لغوية بمعنى أن التبليغ فيها لا يتم على الوجه الأكمل إلا بطريق المشاركة الفعلية والعلم بهذه المشاركة.
ب ـ تجربة وجدانية لا نظرية مجردة، بمعنى أنها شعور حي يجده صاحبه في قلبه.
والدليل على هذا الوصف الوجودي والوجداني للتجربة الإشارية: «تقلب هذه التجربة» و«تعدد العبارة عنها».
2 ـ 2 ـ 1 ـ تقلب التجربة
قد يكون التعبير الإشاري دالا على معنى قائم بالمقتدي عند صدور الإشارة، فيكون مطالبا بالارتقاء من هذا المعنى، أو يكون هذا التعبير دالا على معنى لم يقم به بعد، فيكون مطالبا بجمع الهمة والتهيء بالعمل لاستقباله.
يترتب على هذه المطالبة، أن يأخذ المقتدي في التقلب بين المعاني بحسب مستويات هذه المطالبة، فإذا ما أدرك معنى مخصوصا في مستوى مخصوص من هذه المستويات، لا يلبث أن يدركه بوجه آخر أو يدرك غيره بانتقاله الى مستوى آخر. ولما كان كل معنى مقرونا بطريقة معينة في الشعور أو في الفهم، صار كل خبير بمعنى أحق أن يسلم له به ويفزع اليه في فهمه.
2 ـ 2 ـ 2 ـ تعدد العبارة
لما كانت درجات أهل التجربة الروحية في المعارف والأحوال متفاوتة، كان كل منهم يعبر عن مقدار معرفته وينطق حسب حاله، وكل هذا لا يحول دون تواصلهم وتفاهمهم وتبليغ مقاصدهم بعضهم لبعض. فمن كان في نفس المرتبة من المعرفة أو كان له نفس الحظ من التجربة، لا يذهب عليه الوجه الذي تدل به العبارة التي القي بها إليه، ومن كان في منزلة من المعرفة أعلى أو كان نصيبه من التجربة أقوى، كان أولى بأن لا يفوته إدراك ما لوحت به العبارة، لأن دلالتها المقصودة مطوية فيما يمكن أن تحمل عليه من المعنى لو ألقى هو بها على غيره، منطلقا من مرتبته، ومن كان في منزلة من المعرفة أدنى أو كانت تجربته أنقص، لم يفته إدراك أن ما تشير إليه العبارة أبعد في الدلالة وألطف في المعنى من الوجه الذي يمكن أن يدل هو به عليها وإن فاتته المكابدة بالتجربة لإشارتها المقصودة. ومن كان في تجربة وأرتقى الى تجربة فوقها، علم أ، العبارة حمالة لوجوه، أقربها الى الحقيقة الوجه الذي هو ألطف وأنسب.
فلولا شعور صاحب التجربة بضرورة التلازم بين المقال والحال لما عمد الى تلوين عبارته وتلوين فهمه لعبارة غيره بتلوين تجربته ومعرفته.فلما كانت هذه التجربة غير مقيمة، وكانت تتزايد في الترقي بتزايد العمل، لم يجد هذا حرجا في تصحيح فهمه والاستمرار على حمل العبارة على معان متفاوتة من غير أن يكون هذا التفاوت مضرا بالتواصل ولا مخلا بالتعاقل.
ومتى كانت الإشارة متعلقة بتجربة وجودية وجدانية، متميزة بالتقلب في معانيها ومتعددة في صيغها التعبيرية، فقد دل ذلك على أن الإشارة تستوي شرط القصد من جهة أصلها التجربي، فالتقلب في المعنى يفيد «تجريد القصد» الذي يقتضيه استئناف العمل، والتعدد في التعبير يفيد «تعديد القصد»، الذي يقتضيه الترقي في درجات المعنى.
2 ـ 3 ـ الغاية القاصدة للإشارة
أما عن غاية التعبير الإشاري، فإذا كان «القول العباري» لا يشترط بالضرورة التعلق بحكمة معينة، فإن مقتضى «الإشارة» أن تقترن اقترانا داخليا بها، بحيث ينصرف عنها المدلول الذي وضع له اللفظ في الأصل انصرافا، ولا يبقى إلا المدلول الحكمي (بكسر الحاء) وحده.
أما «العبارة»، فاذا اقترنت بالحكمة، فإن اقترانها لا يكون إلا على جهة خارجية بحيث تكون الحكمة المنوطة بها معنى زائدا على المدلول المنقول باللفظ، ولا اقتران داخلي لها إلا مع المعنى الوعظي وشتان بين القول الوعي والقول الحكمي(9)، فالأول لا تلازم بينه وبين العمل، فقد يدرك «الموعوظ» المضمون المجرد للوعظ، ولا ينتهض الى العمل، إعراضا عنه أو جهلا بكيفية العمل التي لا تنفع فيها الشهادة والحكاية، بينما التلازم قائم بين الحكمة والعمل، إذ لا إدراك لمضمون الحكمة إلا من خلال فعلين اثنين هما: «المشاهدة» و«المحاكاة» (أو قل التشبه).
2 ـ 3 ـ 1: الحكمة والمشاهدة
لا ينفذ الى حكمة الإشارة من تجردات مداركه من صبغة العمل، لأن قصارى هذا التجرد أن يوقفه على أوصاف الأشياء وعللها الظاهرة وأن لايتعدى به الى إدراك: مقاصدها الخفية. أما التغلغل في العمل، فمن شأنه أن يخرج صاحبه من التجريد النظري لما يدرك، ليورثه القدرة على الحضور بقلبه فيما يدرك، وأن يفتح مداركه فتحا على ما وراء الأسباب الظاهرة ليورثه الشعور الحي بدلالاتها البعيدة، فتنز بذلك هذه المدركات والظواهر من نفسه منزلة «الآيات» وعندما يصير المدرك آية، ويصير الإدراك حضورا وشعورا، فإن المدرك يصير متحققا بالمشاهدة، فالمشاهد من كان نافذا الى المعنى من جهة استهلاكه في العمل، على خلاف«الشاهد» الذي يكون واقفا دون المعنى لتجرده عن العمل، وليست الحكمة الا المعنى الذي أثمرته المشاهدة على خلاف «الفكرة» التي هي المدلول الذي تنتجه الشهادة والرواية.
2 ـ 3 ـ 2 ـ الحكمة والتشبه
لا يكاد المشاهد يشاهد الحكمة حتى تنبعث من نفسه داعية الأخذ بها عن صاحبها بالشبه بأفعاله وأحواله، لحصول التعظيم عنده في بالغ نفعها وفي جلال قدر الناطق بها، وليس في هذا التشبه ما يدو الى الاعتقاد بأن الآخذ به واقع لا محالة في المحاكاة الآلية وسلب حرية الإرادة، وذلك للسببين الآتيين:
– أحدهما أن من يتشبه بالقدوة يصدر عن مبادرة عفوية ناتجة عن شعور بمناسبة بينه وبين هذا النموذج تمتزج بمشاعر المحبة، ومعلوم أ، المحبة لا تنتزع بالقهر أو العنف.
– والثاني أن ما يقصد المقتدي التشبه به ليس ظاهر القدوة وأحواله الخارجية، وإنما على الأصح، المعاني التي يحملها في باطنه والتي تظهر آثارها على جوارحه، أي أنه يقصد التشبه بالحياة الروحية للقدوة، ولا يخفى أن الروح مجلى حرية الانسان ومنشأ انطلاقه وابتكاره في عالم المعنى.
ومتى علمنا أن معنى الإشارة يدرك بطريق المشاهدة ويؤخذ بطريق المحاكاة، أدركنا أن تقوم الإشارة بشرط القصد من جهة غايتها، ذلك أن المشاهدة تستند الى الحضور ولا حضور بغير «تمديد القصد» بينما المحاكاة تستند الى التعظيم، ولا تعظيم بغير «تشديد القصد»، ولا عجب حينئذ أن يجري استعمال لفظ الإشارة في معنى الحكمة، حتى نزلت منزلتها، وأن يختص لفظ «التدبر» و«الاعتبار» بالدلالة على هذا المعنى الحكمي، فالتدبر هو ما كان من النظر متجها الى إدراك الغايات والمآلات، والاعتبار هو ما كان من النظر محققا للعبور من الدلالة الحقيقة الى الدلالة المقصدية.
ثالثا: فائدة التربية الروحية في تحديد النمط المعرفي
لقد اتضح لنا أن القدوة متحقق بالصدق في مطابقة قوله لفعله، طبيعة وأصلا وغاية، كما تضح لنا أن الإشارة متعلقة بالقصد، من حيث طبيعتها المعنوية وأصلها التجربي وغايتها الحكمية. ولما كان الصدق هو المخرج من آفة الانفصال بين العلم والاخلاق، وكان القصد هو المخرج من آفة الانفصال بين العقل والغيب، لزم أن تكون التربية الروحية(10) التي هي التربية على الصدق عن طريق الكون مع الصادقين وعلى القصد عن طريق الأخذ بالمقاصد قادرة على أن تطهرنا من آثار هاتين الآفتين، وقادرة أيضا على أن ترسخ فينا ملكة الوصل بين العلم والأخلاق وملكة الوصل بين العقل والغيب، فلنبسط الكلام في هاتين العمليتين: «التطهير» و«الترسيخ».
1 ـ التطهير والتكامل المادي الروحي
لما ترسب فينا ما ترسب من المعلومات المنقطعة عن القيم الاخلاقية والمعاني الغيبية تحت تأثير النمط المعرفي المنقول، كانت مهمة التربية الروحية أن تقوم بـ«إعادة التربية» لمداركنا، حتى تطهرنا من هذه الطبقات المعرفية المترسبة والمانعة لنا من قبول وتقبل أي شكل مغاير من أشكال المعرفة، ووسيلتها في هذه «الإعادة التربوية» تمريننا المنظم والمطر والمكثف على القيام بالأعمال على خير وجه والمواظبة عليها والزيادة فيها على قدر طلب الخروج من الطلبات المعرفية المتراكمة، أي على قدر ما تراكم من الطبقات المعرفية تكون الأعمال الضرورية لإزالتها.
وفي هذه الحقيقة ما يبطل دوى من يدعي بأن القليل من الأعمال عند المتأخرين يسد مسد الكثير من الأعمال عن المتقدمين، محتجا بتطور المعرفة العقلية وانشعال الانسان بالوفاء بمتطلبات الحياة وبمواجهة الواقع. والحق أننا مطالبون بان نكون أعمل وأشغل ممن سبقونا لقربهم من الاصول المعرفية الاسلامية وبعدنا عنها.
وما أن يوفي الداخل في هذه العملية التطهيرية، أو قل «المقتدي»، هذا التمرين المرتب والمنسق حقه، حتى يفتح له باب تحصيل التكامل المادي الروحي المقوم لفطرة الانسان، هذا التكامل الذي يهيؤه لاكتساب القدرة على الاستقلال عن النمط المعرفي المألوف، لك أنه إذا نفعه استغراقه في العمل، وذهبت عنه العوائق المعرفية المترسبة واسترجع توازنه المادي الروحي، فإنه يستعد لتلقي معرفة متكاملة، كما لو كانت قد انطوت عنها آثار النمط المعرفي المترسب انطواء كليا، وكما لو كانت أسباب المعرفة الجديدة مطوية أصالة فيه.
2 ـ الترسيخ وتجديد النمط المعرفي
لا يكفي أن يقترن النظر بالعمل، بل ينبغي أن يبلغ العمل من نفس «المقتدي» درجة يصبح معها هو المد للنظر بأسبابه وكيفياته، بل ينبغي أن يتحد النظر بالعمل اتحادا. فلما كان الفصل بينهما أثرا من آثار الترسبات المعرفية التي تختص عملية التطهير بإزالتها، فإن «المقتدي» بمداومته على الأعمال والاستزادة منها، يتجه تدريجيا الى الجمع بين هذين الطرفين بل الى تحقيق الاتحاد التام بينهما، فينظر بقوالب العمل كما يعمل بمقولات النظر، ويرجع الى هذا الاتحاد رجوعه الى وصف راسخ فيه رسوخ الطبائع، وما صار كالوصف الراسخ لا يتصرف صاحبه إلا على وفقه.
وما أن يتحقق المقتدي باتحاد النظر والعمل حتى يفتح له باب تحصيل القدرة على التجديد فإذا اهتدى المقتدي الى التحرر من صنوف التبعيات للطبقات المعرفية المتوارثة، وصارت أسباب المعرفة المتكاملة داخلية ومتمركزة في شعوره وفي فهمه، كان أقدر على التوسل بهذه الأسباب لإنشاء معرفة مغايرة لطبيعة النمط المتعارف، معرفة تصل، على خلاف هذا النمط، العلم بالأخلاق والعقل بالغيب وصلا تاما، فيجتمع له اجتماعا «نفع العلم وكمال العقل»، فكل علم نافع لابد وأن يخرج عن «مبدأ الموضوعية الميتة» ومبدأ التجاوز المسيب «اللذين أخذ بهما النمط المعرفي المنقول بموجب فصله العلم عن الأخلاق، فلا موضوع علمي يستقل عن آثار الذات الانسانية ولا مضمون معرفي يخلو من تأثير القيم السلوكية، فيكون العلم النافع آخذا بموضوعية حية وبآلية موجهة. وكل عقل كامل لابد أ، يخرج عن مبدأ «السببية الميتة» ومبدأ «الآلية المسيبة»، كما أخذ بهما النمط المعرفي المنقول بموجب فصله العقل عن الغيب، فلا سبب عقلي بغير إمكان تركه الى غيره، ولا ظاهر مادي بغير قصد باطني، فيكون العقل الكامل آخذا بسببية حية وآلية موجهة.
وإذا استقام للمقتدي بناء هذا النمط المعرفي الجديد، فإن كان عالما فلا يصوغ قانونا ولا قاعدة إلا وازداد بها تطلعا الى النفع ودخولا في أفق القرب، وإذا كان مفكرا فلا يدعي دعوى إلا وأفاد منها المزيد من الالتزام والمزيد من التقرب، وإن كان أديبا فلا يأتي قولا إلا زاده ذوقا للمعنى الخلقي وأدبا مع حقيقة القرب.
والقول الجامع أن النمط المعرفي السائد غير مناسب إن لم يكن غير صالح للتوسل به في بناء معرفة إسلامية حقة،لان مناهجه العقلية ونتائجه العلمية تنبني على أصلين: أحدهما فصل العلم عن الأخلاق، الذي يتفرع عنه مبدأ الموضوعية الميتة ومبدأ التجاوز المسيب، والثاني فصل العقل عن الغيب، الذي يتفرع عنه مبدأ السببية الميتة ومبدأ الآلية المسيبة، لذا يحتاج المسلم بوصفه مسلما الى الدخول ي تربية تزوده بنمط معرفي بديل محفوظ من هاتين الآفتين: آفة الانقطاع عن الأخلاق وآفة الانقطاع عن الغيب. ولا تربية أوفى بهذا الغرض من التربية الروحية، إذ يقوم جانبها التحصيلي في ربط العلم بالعمل عن طريق الكون مع الصادقين، وجانبها التوصيلي في ربط العقل بالغيب عن طريق الأخذ بالمقاصد ذلك أن الكون مع الصادقين والأخذ بالمقاصد يولدان في نفس المسلم فاعلية تعيد إليه تكامله المادي الروحي، فينهض الى تطهير نفسه من الطبقات العقلية والعلمية الموروثة عن النمط المعرفي المتداول، كما تعيد اليه رسوخ وحدة النظر والعمل، فينهض الى تجيد المعرفة تجديدا يزداد فيه عملا بعمله وقربا بعقله، فيكون علمه نافعا وعقله كاملا.
الهوامش:
1 ـ تأمل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقا يبتغي فيه علما سهل الله له طريقا الى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر».
2 ـ ليس «العقل» ذاتا كما ساد الاعتقاد بذلك بسبب تأثير التعريف اليوناني للعقل، وإنما و فعل من الأفعال الإدراكية مثله مثل السمع والابصار، وقد يطلق بتوسع على حاصل هذا الفعل، فيكون مرادفا لمجموع المعقولات كما أن «العلم» ليس ذاتا وإنما فعل من الأفعال الإدراكية وقد اشتهر بالدلالة على حاصل هذا الفعل، فصار مرادفا لمجموع المعلومات. انظر طه عبد الرحمان، «العمل الديني وتجديد العقل»، ص32 ـ 36.
3 ـ نحصي لعلماء المسلمين صيغا مختلفة تفيد مدلول «العلم المعمول به»، منها «العلم مبدأ العمل، والعمل تمام العلم» (أبو الحسن العامري، كتاب الاعلام بمناقب الإسلام ص78). و«العلم المستعمل» أو «العلم الباعث على العمل» (الشاطبي، الموافقات، الجزء الأول ص69) و«كمال العلم في حصول الاتصاف به» (ابن خلدون، المقدمة ص460 ـ 461، طبعة المكتبة التجارية بمصر).
4 ـ ورد هذا المعنى الجامع بين كمال العقل ودلالته على القرب من حضرة الله في أحاديث ذكرها الماوردي في كتابه. «أدب الدنيا والدين»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأحمق العابد يصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر، وإنما يقرب الناس من ربهم بالزلف على قدر عقولهم» ص27، وروى لقمان بن أبي عامر عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال «يا عويمر ازدد عقلا تزدد من ربك قربا، قلت بأبي أنت وأمي، ومن لي بالعقل، قال: اجتنب محارم الله، وأد فرائض الله تكن عاقلا ثم تنفل بصالحات الأعمال، تزدد في الدنيا عقلا وتزدد من ربك قربا، وبه عزا» ص29 ـ 30. وقد قيل أيضا: «العاقل من عقل عن الله أمره ونهيه» ص29.
5 ـ تدبر الاية الكريمة: «قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا». (الإسراء، 85).
6 ـ الغزالي، «إحياء علوم الدين»، الجزء 5، «كتاب النية والاخلاص والصدق»، ص195 ـ 306.
7 ـ تدبر الآية الكريمة: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر اله كثيرا» (الاحزاب 21).
8 ـ تدبر الآية: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين» (التوبة 119).
9 ـ تدبر الآية: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن» (النحل 126). لقد جرى الاستشهاد بهذه الآية في سياق تمييز مراتب الدعوة الثلاث: «الحكمة» وهي أعلى مرتبة ثم «الموعظة» وهي دونها، ثم «المجادلة الحسنة» وهي دون الأخريين.
10 ـ إن المصطلح القرآني المقابل للفظ «التربية الروحية» هو «التزكية» كما ورد في آيات متعددة، نذكر منها «قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها» (الشمس 9 ـ 10)، «هل لك الى أن تزكى وأهديك الى ربك فتخشى» (النازعات 18 ـ 19)، «ربنا وابعث فيهم رسولا يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم» (البقرة 129). كما أن اللفظ القرآني «التطهير» يحمل نفس المعنى كما جاء في الآيتين: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها» (التوبة 103). «ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون» (البقرة 133).
الأستاذ الدكتور طه عبد الرحمن