أولا: سؤال الأذواق لماذا السماع؟
سؤال قد يفرض نفسه في بوتقة التفاعل النفسي والاجتماعي والضغوطات الاقتصادية والسياسية والبيئية والمنافسات الفنية والجمالية التي تعرفها البشرية منذ وجودها وخاصة في عصرنا الحالي من أجل تأسيس نموذج تواصلها وعناصره الإيجابية.
فالسماع مشتق من السمع وهو يمثل إحدى أهم الحواس الخمسة وأقواها في الإدراك والوعي، بل هو المدخل الرئيسي لكل المعارف الإنسانية والسبيل إلى تحقيق استقرارها في الوجدان الشعوري واللاشعوري معا.
كما أن السماع قد يكون هو الوسيلة الدقيقة والمحققة في مجال الجمال والمحبة والعشق وتناسق الفعل الخيالي المؤدي إلى الإبداع والسبح في عالم المعاني التي تحدد لنا شكل المباني.
ولهذا فلقد كان السمع وسيبقى أقوى من البصر بكثير وأكثر دلالة معرفية وذوقية وجمالية من كل الحواس دونه. بحيث كنموذج قد ترى بعينك الشخص جميل الملامح ومتناسق القسمات والأطراف ثم تعجب به وتميل إلى قبوله في باحة تواصلك، لكن ما أن يبدأ بالكلام كتصويت وتعبير وتوصيف حتى يتحدد لديك هل هذا الجمال ثابت أم مزيف جوهري أم عرضي. وبالتالي فتجد الكثيرين ممن يبدون جميلين عند النظر ومؤهلين للمحبة والتواصل الحميمي أو المندمج قد يتحولون إلى أناس مستثقلين ومنفرين وأكثر مدعاة إلى القطيعة والابتعاد، والسبب في هذا قد يكون هو صوتهم ومحتواه وموسيقى ألفاظهم.
من هنا فقد جاء التنبيه من القرآن الكريم على خطورة المظهر العيني في تزييف الحقائق والذي تكشفه حاسة السمع بعد الإنصات كما في قول الله تعالى: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة) الآية، وأيضا جاء الذم صريحا لصوت الحمير كتربية للإنسانية حتى تجمل إيقاعات صوتها ولا تزعج الآخرين فيكون التنافر والتناكر كما في سورة لقمان: (واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير).
هذا المعنى قد يجرنا إلى التنبيه على تفاعل الكائنات سواء منها الحيوانية أو الإنسانية مع السماع وتفاضلها بحسبه.
فإذا كان صوت الحمير مستنكرا ومستنفرا منه وهو ما يؤشر شرعا على ضرورة الابتعاد عن تقليده أو تعلم موسيقاه فإن صوت الطيور سيكون على العكس من ذلك مرتعا للمعرفة والإدراك والتواصل والحوار والتمثيل الغزلي والروحي المعرفي كهديل الحمام ورمزيته في الحب والألفة والآلاف كما دون له ابن حزم في كتابه "طوق الحمامة"، وهو ما تدل عليه قصة سيدنا سليمان عليه السلام وقبله فقد كان دود عليه السلام يسبح وتسبح معه الجبال والطيور كما في قول الله تعالى: (وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء، إن هذا لهو الفضل المبين)، بحيث ستصبح تلك الطيور ذات تجاوب كبير مع النبيين داود وسليمان عليهما السلام وبالتالي ستتأسس مجموعة المزامير الداودية ذات الترانيم الجميلة والإيقاعات الموسيقية الشيقة عن طريق الصوت المجرد التي تتحرك معه الحيوانات والجمادات وبالأحرى الإنسان ذي الروح الشفافة والوجدان المرهف الحي، حتى إن نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيمدح أبا موسى الأشعري كما في الصحيح بقياس صوته بتلك المزامير: "لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود" الحديث.
هذا التفاعل الكوني بالسماع والإيقاع الموسيقي للأصوات قد حدا ببعض الفلاسفة اليونان - ربما أفلاطون أو فيثاغوراس - إلى اعتبار أو إدراك وجدانيا أن دورات الأفلاك الكونية قد تدور بإيقاعات موسيقية متناغمة، وبالتالي فستكون الدرجات السبع الموظفة في السلم الموسيقي ذات ارتباط موضوعي أو عضوي بالدورة الأسبوعية للأيام والدورة العامة الفلكية، وكذلك قد يمكن ربطها بالأشواط السبعة في الطواف حول الكعبة المشرفة التي تجسد لنا شعوريا ولاشعوريا التناغم التام في حركة الحجاج عند الطواف على نموذج دورة المجرات وإيقاعاتها وخاصة المجرة التي يوجد بها كوكبنا الأرضي.
إذ من نموذج الحيوانات التي تتفاعل مع السماع وموسيقاه بالتواتر والتجربة المتكررة قد نجد علاقة الجمال بالحداء عند العرب، وكيف يؤثر النغم وصوت الحادي في نشاط الجمال التي قد تقطع المسافات الطوال من دون كلل أو إعياء مما يسهل على السراة سفرهم وترحالهم.
قد نجد هذا التكريس والتشبيه بين سير الروح وسير الركبان بالحداء مما ينشده بكثرة مسمعو الطريقة البودشيشية حينما تنتعش الأرواح وتتشوق إلى اللحاق بالمعاني المسترسلة في حضرة الذكر وصحبة الشيخ سيدي حمزة كنموذج:
يا حاد سر رويدا وانشد أمام الركب
في الركب لي عريب أخذوا معهم قلبي
من لي إذا أخذوا قلبي..
رفقا بي يا حاد رفقا رفقا بفؤادي
من لي إذا أخذوا لي قلبي
أو
يا حادي الركبان متى وصلت البان أرح هناك العيس وبشر الولهان
أرواحنا راحت وباللقا ارتاحت شمس الحمى لاحت فضاءت الأكوان
يا ساكني رامة النار ضرامة والروح حوامة لكم عن الأكوان
فتفاعل الجمال بالحداء أشهر من نار على علم عند العرب، وقد بقي عند المسلمين من الوسائل المسهلة لقطع المسافات بالسماع كما يذكر أبو حامد الغزالي هذا الحديث الصحيح في البخاري مع التعليق عليه: "عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدى له في السفر، وأن أنجشة كان يحدو بالنساء والبراء بن مالك كان يحدو بالرجال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير"، ولم يزل الحداء وراء الجمال من عادة العرب في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان الصحابة رضي الله عنهم، وما هو إلا أشعار تؤدى بأصوات طيبة وألحان موزونة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة إنكاره، بل ربما كانوا يلتمسون ذلك تارة لتحريك الجمال وتارة للاستلذاذ. فلا يجوز أن يحرم من حيث إنه كلام مفهوم مستلذ مؤدى بأصوات طيبة والحان موزونة".
والتفاعل مع الموسيقى قد اعتبر لدى الأطباء والحكماء والصوفية معا عنوانا على سلامة الوجدان وصحة المزاج واعتداله حتى إن بعض الأطباء قد كانوا يداوون في الماضي ولا يزالون في الحاضر مرضاهم من خلال الصوت الموسيقي الجميل كما يذكر الشيخ محيي الدين ابن عربي في كتابه الفتوحات المكية للدلالة على دور السماع والأصوات العذبة في تهذيب النفوس وتشكيلها وترقيقها قائلا: "من لم يطربه تغريد الطيور ويحركه خرير المياه فاستدل بذلك على سوء مزاجه"الذي قد يكون سوداويا قاتما أو يعاني من خلط بلغمي كما يعبر عنه في الطب القديم.
إذ الأصوات الموزونة المطربة باعتبار مخارجها ثلاثة كما يقسمها أبو حامد الغزالي: "فإنها إما تخرج من جماد كصوت المزامير والأوتار وضرب القضيب والطبل وغيره، وإما أن تخرج من حنجرة حيوان وذلك الحيوان إما إنسان أو غيره كصوت العنادل والقمارى وذات السجع من الطيور فهي طيبة موزونة متناسبة المطالع فلذلك يستلذ سماعها".
كما يذهب إلى أن الأصل في الأصوات حناجر الحيوانات، وإنما وضعت المزامير على أصوات الحناجر وهو تشبيه للصنعة بالخلقة، وما من شيء توصل أهل الصناعات بصناعتهم إلى تصويره إلا وله مثال في الخلقة التي استأثر الله تعالى باختراعها منه تعلم الصناع وبه قصدوا الاقتداء وشرح ذلك يطول، فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيبة أو موزونة، فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب وسائر الطيور، ولا فرق بين حنجرة وحنجرة ولا بين جماد وحيوان، فينبغي أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمي كالذي يخرج من حلقه أو من القضيب والطبل والدف وغيره".
ثانيا: خيار التجريد في السماع بالطريقة وخلفياته.
إن هذا الذي ذكره الغزالي مع تفصيل في كتابه الإحياء قد يمثل بعينه مذهب الطريقة القادرية البودشيشية فيما يخص موقفها من السماع واختيارها لنموذج الصوت المجرد من دون آلة موسيقية وذلك بعدما انقسم الصوفية كما يقول الشيخ سيدي حمزة فيما بلغني عنه ويعبر دائما بأهل الله إلى فرقتين:
الأولى : ترى التزام السماع المجرد بالاعتماد على الصوت الطبيعي للإنسان وقدراته في صياغة الأوزان وتحديد المقامات والتموجات.. والثانية ترى ضرورة استعمال الآلات الموسيقية والتي قد اختلف الفقهاء أنفسهم حول إجازتها أو منعها من خلال بعض النصوص الحديثية التي يبدو في ظاهرها التحريم مع التعليل خوفا من المفسدة بحسب الاقتران وقوته في الانزلاق وعدمه، وهذا ما يؤكده الغزالي أيضا بقوله: "ولا يستثنى من هذه إلا الملاهي والأوتار والمزامير التي ورد الشرع بالمنع منها لا لذتها، إذ لو كان للذة لقيس عليها كل ما يلتذ به الإنسان ولكن حرمت الخمور واقتضت ضراوة الناس بها المبالغة في الفطام عنها حتى انتهى الأمر في الابتداء إلى كسر الدنان فحرم معها ما هو شعار أهل الشرب وهي الأوتار والمزامير فقط، وكان تحريمها من قبل الإتباع كما حرمت الخلوة بالأجنبية لأنها مقدمة الجماع، وحرم النظر إلى الفخذ لاتصاله بالسوءتين وحرم قليل الخمر وإن كان لا يسكر لأنه يدعو إلى السكر وما من حرام إلا وله حريم يطيف به، وحكم الحرمة ينسحب على حريمه ليكون حمى للحرام وقاية له وحظارا مانعا حوله كما قال صلى الله عليه وسلم :"إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه"فهي محرمة تبعا لتحريم الخمر لثلاث علل:
إحداها:أنها تدعو إلى شرب الخمر فإن اللذة بها إنما تتم بالخمر.
الثانية:إنها حق في قريب العهد بشرب الخمر تذكر مجالس الأنس بالشرب فهي سبب الذكر.
الثالثة :الاجتماع عليها لما أن صار من عادة أهل الفسق فيمنع التشبه بهم لأن من تشبه بقوم فهو منهم، وبهذه العلة نقول بترك السنة مهما صارت شعارا لأهل البدعة خوفا من التشبه بهم".
فالمنع من الملاهي والأوتار والمزامير الذي أشار إليه الغزالي قد أخرجه البخاري من حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري: "ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والمعازف"وصورته عند البخاري صورة تعليق، ولذلك ضعفه ابن حزم ووصله أبو داود والإسماعيلي.
بل إن المنع الاقتراني لم يقتصر على السماع بالآلات وإنما قد يتعداه إلى السماع المجرد فيما يذهب إليه أبو طالب المكي صاحب "قوت القلوب" حيث يقول: "في السماع حرام وحلال وشبهة، فمن سمه بنفس مشاهدة شهوة وهوى فهو حرام، ومن شهده بمعقوله على صفة مباح من جارية أو زوجة كان شبهة لدخوله في اللهو فيه، ومن سمعه بقلب يشاهد معاني تدله على الدليل وشده طرفات الجليل فهو مباح"، ويعلق عليه السهروردي: "وهذا قول الشيخ أبي طالب المكي وهو الصحيح، فإذن لا يطلق القول بمنعه وتحريمه والإنكار على من يسمع كفعل القراء المتزهدين المبالغين في الإنكار، ولا يفسح فيه على الإطلاق كفعل بعض المشتهرين به المهملين شروطه وآدابه المقيمين على الإصرار.
فأما الدف والشبابة وإن كان فيهما في مذهب الشافعي فسحة فالأولى تركهما والأخذ بالأحوط والخروج من الخلاف.
وأما غير ذلك فإن كان من القصائد في ذكر الجنة والنار والتشويق إلى دار القرار ووصف نعم الملك الجبار وذكر العبادات والترغيب في الخيرات فلا سبيل إلي الإنكار، ومن ذلك القبيل قصائد الغزاة والحجاج في وصف الغزو والحج مما يثير العزم من الغازي وساكن الشوق من الحاج".
فمذهب الطريقة البودشيشية من خلال هذا التقسيم المختصر هو ترك الآلة وإعطاء الفسحة للأصوات العندليبية والبلبلية وخاصة لدى الشباب لكي يسبحوا في فضاء العرفان بأجنحة روحية ذات رفرفات جمالية وذبذبات ذوقية مشوقة إلى أقصى غايات الأشواق والتطلع إلى منتهى الآفاق وهو مما يتناسب مع قوة الشيخ سيدي حمزة الروحية ومستواه العرفاني الرفيع والمؤثر بواسطة الهمة الفعالة والمهيمنة على مجالس السماع قبل التسميع وبعده مما لا يمكن إنكاره.
ولهذا فإن اللجوء إلى الآلات كما فهمناه من مذهب الشيخ سيدي حمزة هو تعبير عن ضعف نسبي في قوة بعض الشيوخ الروحية وتكاملهم التربوي والنوراني من حيث تأثيرهم على المريدين وتحريكهم لحد الوجد والاندماج أو الفناء في المعنى الذي يرومون الدندنة حوله بواسطة السماع والقصيد.
وإن كان الشيخ سيدي حمزة بمذهبه هذا قد يتوافق مع المذاهب الفقهية في التزام حكم ما حول السماع وأنواعه إلا أنه قد يعتمد بالدرجة الأولى في مسلكه على الفقه الأكبر ، أي فقه القلوب والوجدان أكثر من فقه الفروع والحناجر واللسان، وذلك بحكم الاقتران القدسي الذي يعرفه السماع في الطريقة البودشيشية والمتميز كما يلحظه الجميع من ذوي النوايا الصافية بشفافية القرب من الحضرة القدسية الإلهية والحضرة النبوية الشريفة وتحقيق الخطاب المباشر بالحال والإشارة والاستبشار السائد فيها.
بحيث أن الجمال الإلهي - حسب تعبير السهروردي - "منكشف للأرواح غير مكيف للعقل ولا مفسر للفهم ، لأن العقل موكل بعالم الشهادة لا يهتدي من الله سبحانه إلا إلى مجرد الوجود ولا يتطرق إلى حريم الشهود المتجلي في طي الغيب المنكشف للأرواح بلا ريب، وهذه رتبة من مطالعة الجمال رتبة خاصة، وأعم منها من رتب المحبة الخاصة دون العامة مطالعة جمال الكبرياء والجلال والاستقلال بالمنح والنوال والصفات المنقسمة إلى ما ظهر منها في الآباد ولازم الذات في الآزال. فللكمال جمال لا يدرك بالحواس ولا يستنبط بالقياس وفي مطالعة ذلك الجمال أخذ طائفة من المحبين خصوا بتجلي الصفات ولهم بحسب ذلك ذوق وشوق ووجد وسماع ، والأولون منحوا قسطا من تجلي الذات فكان وجدهم على قدر الوجود وسماعهم على حد الشهود".
ثالثا: الشيخ سيدي حمزة والتأسيس الرفيع لروح السماع
وإلى هذا المعنى بالذات مع توافق العبارات والآفاق ومضامينها كان يرمز الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيش في تعريفه للتصوف بأنه :"أخلاق وأذواق وأشواق"، لخصه في قصيدته التي تنسب إليه خاصة والتي بها بدأ مشواره في الدعوة إلى الطريقة في صورة نظم وقصيد رفيع المستوى عنوانها "يا طالبا بلوغ الحقيقة"ومطلعها:
يا طالبا بلوغ الحقيقة ادن فإن الوصول بصحبتي
فإلى سبيل الله دعوتي على بصيرة من أمري ويقظتي
فمقام التفريد منزلتي بعد التجريد نلت أعلى رتبة
فمن جاء قاصدا يسعى لحضرتي أزج به بحر التوحيد بهمتي
قد خصني الإله بمحبة محا من قلبي أثر الغيرية
من واد محبة قدس أرتوي شرب عز ورفعة وتنعم
بحيث لو لم تكن للشيخ سيدي حمزة غير هذه القصيدة لكانت كافية للدلالة على رسوخ باعه في مجال العلم والمعرفة وسعة الإدراك وقوة الهمة المتكاملة والذي تستلهمه الطريقة منه من خلال التزام الصلاة الجمالية في دعواتها وختم قصائدها كعنوان على المشرب الروحي للشيخ وعلو همته والتي مضمونها:"اللهم صل على سيدنا محمد الذي ملأت قلبه من جلالك وعينه من جمالك فأصبح فرحا مؤيدا منصورا وعلى آله وصحبه وسلم تسليما والحمد لله على ذلك".
بحيث أن هذه الصلاة قد تدون لآفاق المعراج الروحي المقتبس من المعراج النبوي والقرب الشهودي من الحضرة العلية حيث لا زمان ولا مكان ولا حروف ولا تعقيد عند البيان وإنما هو تجلى مطلق وحب موثق وشوق لا يتناهى، كما يكرره مرارا مسمعو الطريقة البودشيشية في حضرة شيخهم من خلال هذه القصيدة الرائعة ذات الرمزيات الروحية المشوقة:
دنوت من حي ليلى لما سمعت نداها
يا له من صوت يحلو أود لا يتناهى
رضت عني جذبتني أدخلتني لحماها
أنستني خاطبتني أجلستني بحذاها
أدهشتني تيهتني حيرتني في بهاها
أخذتني ملكتني غيبتني في معناها
أو:
دعوني دعوني أناجي حبيبي ولا تعذلوني فعذلي حرام
تعلم بكاي ونح يا حمام وخذ عن شجوني دروس الغرام
فؤادي لنحو المدينة هام وقلبي تولع بخير الأنام
وكفوا ملامي فإني محب سكرت بخمر الهوى والغرام
فرق الشراب ورق الحجاب وطاب الخطاب بغير كلام
وأيضا:
دلوني دلوني يا أهل الله عليه إكراما لمحمد دلوني عليه
محبوبي توارى في حجب الجمال وعني تسامى وأرخى الدلال
وقد عيل صبري وعز الوصال فبالله ربي دلوني عليه
تحيرت فيه فكيف السبيل لوصل النزيه الحبيب الجميل
فالخطاب كله متوجه نحو تحقيق الوصال في حضرة القدوس رب العالمين مصدر الجمال والكمال والجلال، وهل هناك أحلى من كلام خالق الأصوات ومبدع السمع والسماع؟ حتى إن سيدنا موسى عليه السلام - كما يذكر الغزالي في الإحياء - لما خاطبه الله تعالى عند جبل الطور وعاد إلى بني إسرائيل وبدأ يسمع أصواتهم قد أخذه الغثيان لاستثقاله لها واستنكاره إياها لأنه قد كان ما يزال يستلذ عذوبة الخطاب الإلهي الذي هو بالضرورة كله جمال وكمال وذوق وشوق.
ولهذا فالنزول من مقام الجمال والذوق الرفيع إلى مقام الحس والتصنع الوضيع قد يكون جد مستثقل على النفس ومغثي فعلا وواقعا كمثال من يشرب الشاي المحلى بالسكر العادي بعدما تناول العسل الحر الصافي فيكون المذاق بعده باهتا وصامتا لا حلاوة فيه ولا معنى.
لكن كأن ينتقل من المستوى الأضعف إلى المستوى الأقوى كتمهيد للاستلذاذ وتقوية الذوق والطعم فذلك هو التدريج والمقدمة لانشراح الصدر وطلب المزيد من الواردات والمعارف، وهذا ما سيحصل لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم –فيما يذكره ابن عربي رواية عن بعض كتب السيرة-حينما مر باللوح المحفوظ عند ليلة الإسراء والمعراج وسمع صريف الأقلام، والذي بالضرورة لن يكون إلا جميلا وبهيا، فتمايل على شكل وجد لما تضمنه ذلك الصريف من نغمات وحلاوة وعذوبة تهز كل وجدان فما بالك بوجدان سيد الأصفياء والأتقياء والكمل من الرجال والخلق أجمعين والذي قد كان له بمثابة مهيء روحي للمثول في حضرة الجميل المطلق و الجليل الخلاق.
وهذا المعنى والتفسير قد يبدو معقولا ومقبولا وذوقيا مما يمكننا ربطه بتلك المراجعات التي تمت بين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسيدنا موسى عليه السلام حول موضوع الصلاة وأعدادها اليومية والتي قد استحلاها كلاهما لما كانت تضمن لهما من تجديد التواصل مع تلك الحضرة القدسية بشكل مباشر وعن واسطة.
بحيث أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد كان يستعذب لقاء ربه مباشرة على مستوى الشهود والسماع وحينما يعود بإذن الحضرة ليلتقي بسيدنا موسى عليه السلام كان هذا الأخير يستمد منه أثر ونور ذلك الشهود والسماع في آن واحد، مستدركا ومستفيدا بذلك من شهود النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المباشر للحضرة والذي كان قد حرم منه في الدنيا من خلال قول الله تعالى له :"لن تراني"ومتذكرا أو مجددا لذلك الذوق والشوق الذي حصل عليه عند مخاطبة الله تعالى له عند الشجرة :"فلما أتاها نودي يا موسى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى، وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى، إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري".
فموضوع الأثر الإلهي من خلال المشاهدة والسماع وارد بالنص كما في حديث رواه الترمذي وابن ماجه عن زيارة أهل الجنة لربهم كل يوم جمعة وذكر بقاء أثر تلك الزيارة حاضرة في وجدانهم بعد عودتهم إلى مقامهم حيث الجنان كما يذكر الشعراني في باب سلام الله تعالى على أهل الجنة من رواية: "فإذا نظروا إليه نسوا الجنة ونعيمها حتى يحتجب عنهم، فإذا احتجب عنهم بقي نوره وبركته عليهم وفي ديارهم"..
وهذا المعنى قد يجرنا إلى مسألة السر وراء عدم قدرة الشيطان على تشخيص صورة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام كما عبر النبي صلى الله عليه وسلم: "من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتكونني"، وذلك للأثر القدسي الإلهي الغامر لروحانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والذي قد يطرد كل شبه أو شبهة عنه سواء في صوته أو في صورته وذلك لعلو مقامه وقدسية استمداده المباشر من الحضرة العلية من غير حلول أو اتحاد ولكن من مبدأ "لكل مقام مقال ولكل مجال جمال".
من هنا نرى أنه فقهيا من غير الجائز تشخيص صورة النبي صلى الله عليه وسلم على مستوى التمثيل الرسومي أو التشخيص السينمائي، لأن كل تصوير من هذا القبيل سيكون تشويها للحقيقة وإسقاطا لمقام الدوني على العلوي وهذا فيه ما فيه من التناقض ومجانبة الحق.
فالخطاب الإلهي كامن في كل روح إنسانية وهو يظهر بحسب الاستعداد والصفاء وتوجه القلوب نحو استذكاره وهو منهج الصوفية خاصة والذي عليه الطريقة القادرية البودشيشية في شكل كثافة ذكر وقوة وجد عند السماع لا يضاهى في العالم بالتحدي والاستقراء وخاصة لدى شيخها سيدي حمزة الذي قد لا يفتر لسانه وقلبه بالضرورة عن ذكر الله تعالى والتذكير به مشخصا بذلك حكمة ابن عطاء الله السكندري :"لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على مقاله".بحيث كما لاحظنا ولاحظ غيرنا أن لسانه يبقى دائما متحركا بالذكر رغم مخاطبته الآخرين وانشغاله بحضورهم قد عبرنا عنه تشبيها بلسان الطير المسبح لله تعالى غريزة وفطرة.
ومن هنا فلقد كان الوجد عند السماع في طريقته ولدى مريديه أقوى من كل الطرق والمذاهب بسبب هذا المعنى والمبنى الذي عليه حاله ومسلك طريقته من حيث قوة القرب من الحضرة العلية وملازمة الاستمداد، وهو ما قد يفسره لنا أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى لما سئل :"ما بال الإنسان يكون هادئا فإذا سمع السماع اضطرب؟فقال:إن الله تعالى لما خاطب الذر في الميثاق الأول بقوله:"ألست بربكم؟قالوا:بلى" استفرغت عذوبة سماع الكلام الأرواح فلما سمعوا السماع حركهم ذكر ذلك".
رابعا: سر الخصوصية للسماع بالطريقة البودشيشية
هذا التفسير بدوره قد يساعدنا على تفسير تفاعل الأعاجم من الأوروبيين وغيرهم مع السماع الروحي في الطريقة القادرية البودشيشية ووجدهم به، رغم أن منهم لا يعرف العربية جملة أو تفصيلا، وخاصة إذا كان المسمع هو الشيخ نفسه - الذي قد أوتي صوتا جميلا كان يسمع به منذ شبابه وحتى بعد أن أصبح أستاذا وشيخا مربيا - بحيث تكاد أرواحهم تطير وحناجرهم تبح مع اضطراب في الأجساد ولكنه اضطراب لذة وهيام وسكر وغرام وليس جنون و سقام، وما ذلك إلا لانعكاس قرب المخاطب على المستمع قبل صيغة وألفاظ مضمون السماع نظرا لاتحاد الأرواح وتآلفها عند تعارفها كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف".
في حين قد نجد هذا المعنى بارزا في الحديث الشريف أيضا كما أخرجه البخاري عن جبير بن مطعم قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون، أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون، أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون)، كاد قلبي أن يطير!".
بحيث أن هذا الوجد المعبر عنه قد جاء نتيجة مستوى القارئ المتناسب مع مضمون القراءة وبالتالي مع توجه المستمع الذي تفاعل بالضرورة مع هذا التناسب الذي لا يمكن تفسيره سوى بالذوق المؤدي إلى الشوق.
من هنا يرى الغزالي بأن: "الفهم قد يختلف بأحوال المستمع فيغلب الوجد على مستمعين لبيت واحد، أحدهما مصيب في الفهم والآخر مخطئ، أو كلاهما مصيبان وقد فهما معنيين مختلفين متضادين ولكن بالإضافة إلى اختلاف أحوالهما لا يتناقض".
فالوجد بالسماع في الطريقة البودشيشية وجد صادق ودقيق يتجلى ذلك من خلال تفاوت صوره بين الفقراء المريدين وعدم خضوعه لإيقاع موحد بالكامل، حتى إن البعض في قمة الوجد الجماعي المسمى بالعمارة قد لا يحرك ساكنا بينما المعروف عنه أنه أكثرهم وجدا وحالا والبعض الآخر الذي قد يغلب عليه الهدوء في العادة ربما يطرأ عليه وجد لم يكن له بالحسبان.. وما ذلك إلا لقوة الوارد المصاحب للسماع داخل الطريقة التي تستمد قوة وجدها من حال شيخها ومستوى آثار حضوره في القرب من الله تعالى واستمداده من الحضرة العلية الأقدسية والحضرة النبوية الشريفة.
وهذا هو ما عبر به الشيخ سيدي حمزة في قصيدته "يا طالبا بلوغ الحقيقة" عن سر تلك القوة ومصدرها ألا وهو ذلك الإذن القدسي الذي حصل عليه في باب تربية الأنام - والذي فصلنا الحديث عنه في كتابنا: "الطريقة القادرية البودشيشية: شيخ ومنهج تربية" من وجهة دلالة شرعية - يقول عنه:
فلولا أني رحمة للعباد لبحت بسر المجيب والمنادي
فشمس التحقيق سطعت من فؤادي فيا عجبا لمستتر وبادي
***
فاستيقظوا يا معشر النيام بإذن الحضرتين أدعوكم للقيام
روحانيتي ممدة للأنام فشكرا لله على طول الدوام
ومن الله أسأل حسن الختام لجميع سالكي طريق الكرام
ثم الصلاة مصحوبة بالسلام على الحقيقة العظمى بدر التمام
فلا يقاس هنا حال أهل الطريقة بحال غيرهم من المتواجدين في الطرق الأخرى أو أي ميدان روحي غيرها، كما أن السماع بها يبقى ذا آفاق عليا لا يدرك بمجرد تقليد السماع والألحان كما قد يتوهم البعض من سعيهم إلى منافسة الطريقة من هذا الباب، فشتان الفرق بين الذهب الخالص والبهرج المزيف وشتان أن تقاس الملائكة بالحدادين.
كما أن الطريقة قد لا تقصي قصائد العارفين والشيوخ السابقين من توظيفها في السماع كتعبير منها بأن المعنى واحد والطريق واحدة والمشرب واحد رغم أن هناك مريدين من داخل الطريقة قد ألفوا قصائد رائعة بإذن شيخهم وما استلهموه من نسيم صحبته وآخرين هم شباب في مقتبل العمر يسمعون بها كأحلى وأنقى وأنصع النغمات ذات لجمال الظاهري والباطني، فالكل موظف على التساوي طالما أن المقصد والغاية هي: (وأن إلى ربك المنتهى).
الدكتور محمد بنيعيش
كلية أصول الدين - جامعة القرويين / المغرب