إذا وصل الصوفى إلى المشاهدة سكر بخمرة الحب الإلهى، و"السكر والغيبة صاغها أرباب المعانى للتعبير عن غلبة محبة الحق تعالى، والصحو عبارة عن حصول المراد"وعرف الكاشانى السكر بقوله : "حيرة بين الفناء والوجود فى مقام المحبة الواقعة بين أحكام الشهود والعلم إذ الشهود يحكم بالفناء، والعلم يحكم بالوجود".
وفى السكر ينسى الصوفى نفسه ويتسنى اغترابه، وتعود روحه إلى وطنها الأصلى، وتطمئن إلى مصيرها، فالاتصال بالله أواليقين هو وطن الصوفى، يقول الطوسى:
"إذا تحقق باليقين ترحل من يقين إلى يقين، حتى يصير اليقين له وطنا".
يقول العفيف التلمسانى:سَتَأْتيِكَ مِنِّي قَهْوةٌ إِنْ شَرَبْتَهَا | صَحَوْتَ وَفِي صَحْوِ الهَوىَ كُلَّ سَكْرَتِي |
فَلاَ تَمْزِجَنْهَا فَهْيَ بِالْمَزْجِ حُرِّمَتْ | وَلَوْ جُلِيَتْ صِرْفاً عَلَيْهِمْ لَحَلَّتِ |
فَإِن هِيَ قَدْ أَفْنَتْكَ سُكْراً فَغِبْ بِهَا | فَمَنْ صَرَّفَتْهُ الصِرْفُ بِالنَّفْي يَثْبُتِ |
وَفِتْيَانِ صِدْقٍ كَالنُّجُومِ سَرَوْا عَلَى | رَكَائِبِ عَزْمٍ مَا لَهَا مِنْ أَزْمَّةِ |
السكر يقع فى مقابلة الصحو كلاهما يؤديان إلى الفناء"فالسكر كله هو ظن الفناء فى عين بقاء الصفة، وهذا هوالحجاب، والصحو كله هو رؤية البقاء فى فناء الصفة، وهذا هو عين الكشف"ولكن بعد أن وصل السالك إلى درجة البقاء بعد الفناء هل يستريح ؟!! هل ينتهى اغترابه ؟ بالطبع لا !؛ لأن درجة الفناء فى الأصل – كما يقول د. أبو الوفا التفتازانى: حالة وجدانية مؤقتة، يفقد فيها الشعور بالأنا، إلا أن هذه العملية ليست مقترنة بفقد تام للحس، بل هى غيبة مؤقتة عن المحسوسات التى لا تفنى وجودا ولكن تفنى شهودا وشعورا" ومهما وصل الصوفى السالك إلى درجات ارتقائية لابد له من القلق والاضطراب؛ لأن هذه هى طبيعة التصوف، كما جاء فى الطبقات:"التصوف اضطراب فإذا وقع السكون فلا تصوف"وهذا يجعل الصوفى دائما واقع فى حالة تنازع بين الاغتراب والاقتراب.
بعد التحية الخالدة خلود العشق الإلهي،اشكر العارفين بالله جل وعلا،على طرح سلوكهم وسفرهم في سماء العشق،وكلامهم عن السكر والصحو،والفناء،وأشكر الإخوة الناشرين لهذا الكنز الذي لايقدر بثمن.
ردحذف