( ليس الشَّأْنُ وُجُودُ الطَّلَبِ ، إِنَّمَا الشَّأْنُ أَنْ تُرْزَقَ حُسْنَ الأَدَبِ ).
الطلب كله مدخول عند المحققين أولي الألباب ، لما يقتضيه من وجود النفس والوقوف مع الحس ، إذ العارف المحقق لم تبق له حاجة يطلبها ، لأنه قد حصل له الغنى الأكبر وفاز من مولاه بالحظ الأوفر ، وهو معرفة مولاه والغيبة عما سواه ، "ماذا فقد من وجدك" فليس الشأن وجود صورة الطلب وإنما الشأن أن تستغني به عن كل مطلب ، وترزق معه حسن الأدب ، والإكتفاء بعلم الله والوقوف مع مراد الله ، قال الشيخ زروق رضي الله عنه :" والأدب على ثلاثة أوجه : آداب في الظاهر ، وذلك بإقامة الحقوق ، وآداب في الباطن بالإعراض عن كل مخلوق ، وآداب فيهما وذلك بالإنحياش للحق والدوام بين يديه على بساط الصدق ، وذلك هو جملة الأمر وتفصيله وتفريعه وتأصيله".
فالطلب عند العارفين ليس هو بلسان المقام ، وإنما هو بلسان الحال ، وهو الاضطرار وظهور الذلة والافتقار ، كما نبه عليه بقوله :
( ما طلب لك شيء مثل الاضطرار ولا أسرع بالمواهب مثل الذلة والأفتقار)
إنما كان طلب العارفين بلسان الحال دون المقال ، لما حققهم به من وجود معرفته حتى شهدوا منته في محنته ونعمته في نقمته ، فإذا تجلى لهم بالقوة والجلال تلقوه بالضعف والإذلال ، فحينئذ يتجلى لهم بإسمه الجميل ، فيمنحهم كل جميل ، وإذا تجلى لهم بإسمه العزيز أو القهار ، تلقوه بالذلة والافتقار فتتوارد عليهم المواهب الغزار، فإذا أردت أيها العارف أن تطلب من مولاك شيئاً جلباً أو دفعاً ، فعليك بالاضطرار ، والاضطرار هو أن يكون كالغريق في البحر، أو الضال في التيه القفر، ولا يرى لغياثه إلا مولاه ، ولا يرجوا لنجاته من هلكته أحداً سواه ، فما طلب لك من مولاك شيء مثل اضطرارك إليه والوقوف بين يديه ، متحلياً بحلية العبيد هنالك تنال كل ما تريد .