ما الذي يجاب به عما وقع من شطحات الأولياء كقول أبي يزيد : (سبحاني) (ما في الجبة غير الله) وقول الحلاج : (أنا الحق) ونحو ذلك مما لا يخفى من كلماتهم وإشاراتهم التي ظاهرها انتقاد وباطنها حق إلا عند أهل المقت والعناد ؟
فأجاب بقوله :
ما وقع لهم رضوان الله عليهم من الشطحات للأئمة العلماء العارفين الحكماء الذين حماهم الله بالسلامة من حرمان الإنكار ومن عليهم بالاعتقاد في أوليائه وحمل ما صدر عنهم على أحسن المحامل وأقومها عنها أجوبة مسكتة وتحقيقات مبهتة لا يهتدي إليها إلا الموفقون ولا يعرض عنها إلا المخذولون ، فاحذر أن تكون ممن يتحسى كأس سم الإنكار فيهلك لوقته وبادر بالسلامة من غضب الله ومحاربته ومقته فقد قال على لسان الصادق المصدوق : " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب " أي أعلمته أني محارب له . قال الأئمة : ولم ينصب الله تعالى المحاربة لأحد من العصاة إلا للمنكرين على أوليائه وآكلي الربا ومن حاربه الله لا يفلح أبدا .
أحد تلك المسالك : أن تلك الكلمات حكاية عن حضرة الحق ونطق عما يليق وما شاهدوه من أنوارها وغلبة التجوز في نحو ذلك من مقامات المحبة والعبودية والقرب يبسط لهم العذر ويؤفع عنهم الأصر ، ممن اعتمد هذا المسلك الشهاب السهروردي المجمع على إمامته في العلوم الظاهرة والباطنه في عوارفه حيث قال : وما حكي عن أبي يزيد رضي الله عنه من قوله : سبحاني ، حاشا الله أن يعتقد في أبي يزيد أن يقول مثل ذلك إلا على معنى الحكاية عن الله تعالى . قال : وذلك مما ينبغي أن يعتقد في الحلاج رحمه الله في قوله : أنا الحق .
ثانيها : أن ذلك وقع منهم في حال الغيبة والسكر الناشئين عن افناء في المحبة والشهود لموارد الأحوال المزعجة للقلب الآخذة له من صحوه وتمييزه ، ألا ترى أن بعض الهموم أو الواردات الدنيوية إذا وردت على القلب أذهلته وأذهبت تمييزه لشدة تمكنها منه واستغراقه في فكره وخطرها ، فإنه إذا كان هذا في الأمور السالفة التي لا تقاوم جناح بعوضة فكيف بواردات الحق على القلوب ولواعج المحبة المذهلة عن كل مطلوب ومرغوب وعوالم الملكوت المنكشفة لهم في منازلتهم ومشاهدة عجائب القدرة في ترقياتهم ، فإن ذلك لايبقي في القلب شعورا ولا تمييزا بل يصير صاحبه كالسكران الثمل فحينئذ ينطق بما رسخ في خلده قبل ويرجع بطبعه قهرا عليه إلى مكان يلحظه ويعول عليه فينطق لسانه بطبق تلك الأحوال لكن بعبارت لا يقصد بها ما يوهمه ظاهرها من اتحاد أو حلولو أو انحلال فتأمل ذلك وعول عليه تسلم ، وكل سكر نشأ عن سبب جائز فصاحبه غير مكلف ، وممن اعتمد هذا المسلك القطب الرباني عبد القادر الجيلاني نفع الله به حيث قال مترجما عن حال الحلاج : طار طائر عقل بعض العارفين من وكر شجر صورته وعلا إلى السماء خارقا صفوف الملائكة فكان بازيا من بزاة الملك مخيط العينين بخيط ، وخلق الإنسان ضعيفا فلم يجد في السماء ما يحاول من الصيد فلما لاحت له فريسة رأيت ربي ازداد تحيره في قول مطلوبه {فأينما تولوا فثم وجه الله} عاد هابطا إلى حضرة خطة الأرض طالبا ما هو اعدم من وجود النار ف قعور البحار يتلفت بعين عقله فما شاهد سوى الآثار فكر فلم يجد في الدارين محبوبا سوى محبوبه وقال بلسان سكر قلبه : أنا الحق ثم ترنم بلحن غير معهود صفر في روضة الوجود صفيرا يليق ولحن بصورته لحنا عرضه لحتفه ، نودي في سره : يا حلاج اعتقدت أن قوتك لك ، قل الآن نيابة عن جميع العارفين حسب الواحد أفراد الواحد قل يا محمد أنت سلطان الحقيقة أنت إنسان عين الوجود يا عتبة باب الملك لمعرفتك تخضع أعناق العافين وفي حمى جلالتك توضع جباه الخلق أجمعين . انتهى كلامه رضي الله عنه وهو من النفاسة والجلالة بالمحل الأسنى فتدبره حق تدبره ، ويكفى الحلاج شرفا شهادة هذا القطب له بهذا المقام مع ان الصوفية وغيلاهم مختلفون فيه اختلافا كثيرا ، فجماعة من العارفين كأبي العباس بن عطاء وأبي عبد الله بن حنيف وأبي القاسم النصرابادي رضي الله عنهمأثنوا عليه وصححوا له حاله وجعلوه أحد المحققين ن وخالفهم أكثر المشايخ فلم يثبتوا له قدما في التصوف ولم يقبلوه ولم يأخذوا عنه وهذا لا ينافي ما قاله الأولون ؛ لأنه وإن كان محقا بل عالما ربانيا كما قاله ابن حنيف إلا أنه كان مخلطا تكثر منه الكلمات التي ظواهرها منتقدة ، فلذا أعرضوا عن الأخذ عنه ولم يثبتوا له قدما في التصوف أي في التربية والاقتداء وجعلوه في حيز المجاذيب الذين يعتقدون ولا يؤخذ عنهم ولا يعدون من أصحاب المراتب والتصرف فتأمل ذلك فإنه مهم .
الفتاوى الحديثية
ابن حجر الهيتمي