{ هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } * { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } * {وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.
الإشارة :
هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء ، أي : علمًا لدنيًا تحيا به القلوب ، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب . لكم منه شراب ، خمرة تحيا بها الأرواح ، وتغيب عن حضرة الأشباح ، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل ، تثمر بالأذواق ، فيه تسيمون ، أي : في أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم ، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم ، فمن وقف مع حلاوة العمل ، أو المقامات أو الكرامات ، بقي محجوبًا عن ربه ، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله :وَراعِها ، وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ ... وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم
وقال في الحكم : « ربما وقفت القلوب مع الأنوار ، كما حُجِبَت النفوس بكثائف الأغيار » .
وقال الششتري :
وقد تحْجُبُ الأنوار للعبْدِ مثْل ما تبعد من إظلام نفْس حوَتْ ضِغنا
يُنبت بذلك العلم طعام نَفوسكم من قوت الشريعة ، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة ، وثمرة الأعمال في عوالم الحقيقة ، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم . وسخر لكم ليل القبض ، ونهار البسط؛ لتسكنوا فيه؛ لِمَا خصكم فيه من مقام التسليم والرضا ، ولتبتغوا من فضله؛ من فيض العلوم وكشف الغطاء ، فتشرق حينئذ شمس العرفان ، ويستنير قمر الإيمان ، وتطلع نجوم العلم ، كل مسخر في محله ، لا يستتر أحد بنور غيره ، وهذا مقام أهل التمكين ، يستعملون كل شيء في محله . وما ذرأ لكم في أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية ، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة ، وهو الذي سخر بحر المعاني؛ لتأكلوا منه لحمًا طريًا؛ علمًا جديدًا لم يخطر على قلب بشر ، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحِكَم ، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها .
وترى الفلك ، أي : سفن الفكرة ، فيه مواخر؛ عائمة في بحر الوحدة ، بين أنوار الملكوت وأسرار الجَبروت؛ لتبتغوا من فضله ، وهي معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته ، ولعلكم تشكرون ، فتقيدوا هذه النعم الجسام؛ لئلا تزول . وألقى في أرض البشرية جبال العقول؛ لئلا يلعب بها ريحُ الهوى ، وأجرى عليها أنهارًا من العلوم حين انزجرت عن هواها ، وجعل لها طُرقًا تهتدي بها إلى معرفة ربّها ، فَتهتدي أولاً إلى نجم الإسلام ، ثم إلى قمر توحيد البرهان ، ثم إلى شهود شمس العرفان . وبالله التوفيق .
تفسير ابن عجيبة