(التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).
قال القشيري : لقوله تعالى : { السائحون } أي : الصائمون ، ولكن عن شهود غير الله ، المُمْتنعون عن خدمة غير الله ، المكتفون من الله بالله ، ويقال : السائحون الذين يسيحون في الأرض على جهة الأعتبار؛ طلباً للاستبصار ، ويسيحون بقلوبهم في مشارق الأرض ومغربها؛ بالتفكر في جوانبها ومناكبها ، والاستبدال بتغيُّرها على مُنْشِئتها ، والتحقق بحِكَم خالقها بما يَرَوْنَ من الآيات التي فيها ، ويسيحون بأسراهم في الملكوت ، فيجدون رَوْحَ الوصال ، ويعيشون بنسيم الأنْسِ؛ بالتحقيق بشهود الحق .وانظر الورتجبي؛ فقد جعل وصف الإيمان يحمل على التوبة ، ثم التوبة الصادقة تستدعي العبادات والمجاهدات المؤدية للعبودية ، فإذا تمت له نعمة للعبودية اقتضت حمد الله تعالى ، فيحمده تعالى معترفاً بعجزه عن القيام بحمده؛ كما في حديث : « أنتَ كَمَا أثنَيتَ عَلى نَفسِك » ثم الحمد والذكر يقتضي حبس النفس عن مألوفاتها حين عاين حِمَى هلال جماله في سماء الإيقان . ألا ترى كيف قال عليه الصلاة والسلام : « صُومُوا لِرؤْيِتِهِ » ولا يكون فطره إلا على حلاوة مشاهدته لقوله : « وأفطِرُوا لرُؤْيَتِهِ » فالسائحون طيارون بقلوبهم في أقطار الغيب ، وذلك يقتضي الخضوع بنعت الفناء عند مشاهدة العظمة ، فيركع شوقاً لجماله ، وخضوعاً لجلاله ، وعند ركوعه وخضوعه تحيط به أنوار الصفات ، فيسجد لكل الجهات؛ { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } [ البقرة : 115 ] . وهذا السجود يقتضي الغربة ، والغربة تقتضي المشاهدة ، والمشاهدةُ تصير شاهدها متصفاً بصفاتها ، فمن وقع في نور أسماء الله وصفاته صار متصفاً بوصف الربوبية ، متمكناً في العبودية ، فيحكم بحكم الله ، ويعدل بعدل الله ، فيصفهم الله بهذه النعوت ، قال : ( الآمرون بالمعروف ) الداعون الخلق إلى الحق ، والناهون لهم عن متابعة الشهواتِ ، والحافظون لحدود الله ، القائمون في مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبية لهم ، فلا يتجاوزون عن حد العبودية ، وإن ذاقوا طعم حلاوة الربوبية؛ لأنهم في محل التمكين على أسوة مراتب النبي صلى الله عليه وسلم ، مع كماله ، قال : « أنا العبد لا إله إلا الله » . انتهى .
تفسير ابن عجيبة