آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الحكم العطائية (81) : بَسَطَكَ كَيْ لاَ يُبْقِيكَ مَعَ الْقَبْضِ ، وَقَبَضَكَ كَيْ لاَ يَتْرُكَكَ مَعَ الْبَسْطِ .

(بَسَطَكَ كَيْ لا يُبْقيكَ مع القبضِ، و قَبَضَكَ كي لا يَتْرُكَكَ مع الْبَسْطِ، و أخْرَجَكَ عنهُما كَي لا تكونَ لشَيْءٍ دونَهُ)

"القبضُ"، و "البسطُ"، من الحالاتِ التِي يتَلَوَّنُ بها العارِفونَ، و هُما بمنزلةِ "الخوفِ"، و "الرجاءِ" للمريدينَ المبتدئينَ.
و سبَبُهُما: الوارداتُ التي تَرِدُ على باطنِ العبدِ.
و قُوَّتُهما، و ضَعْفُهما: بحسَبِ قُوَّةِ الوارداتِ، و ضَعفِهَا.
و المقصودُ هَهُنا: أنهما وصفانِ، ناقصانِ، بالنسبة إلى ما فوقهما؛ فإِنَّهما يَقتَضِيانِ بقاءَ العبدِ، و وُجودَهُ.
فمن لطف الله بعبده، تكوينَهُ فيهِمَا، ثُمَّ إِخراجَهُ عنْهُمَا، بفنائهِ عن نَفْسِهِ، و بقائِهِ بِرَبِّه.
قال فارس رضي الله تعالى عنه: [القبضُ أوَّلاً، ثمَّ البسطُ، ثم لا قَبْضٌ، و لا بَسْطٌ].
لأن القبضَ، و البسطَ، يَقَعانِ في الوجودِ، و أما معَ الفناءِ، و البقاءِ، فلا.
و كان الْجُنيْد رضي الله تعالى عنه يقولُ: [الخوفُ يقبِضُنِي، و الرَّجاءُ يَبْسُطني، و الحقيقةُ تَجْمَعُني، و الحقُّ يفرقني؛ إذا قبضَني بالخوفِ، أفناني عَنِّي؛ و إذا بَسَطنِي بالرجاءِ، ردَّنِي عليَّ؛ و إذا جَمَعَني بالحقيقةِ، أحْضَرَني؛ و إذا فَرقني بالحقِّ، أشْهَدَنِي غيري، فغَطَّاني عنهُ؛ فهو في ذلك كلهِ مُحَرِّكِي، غير مُسَكني؛ و مُوحِشِي، غير مُؤنِسِي؛ فحُضُوري، لِذَوْق طَعمِ وُجُودي؛ فَلَيْتَه أَفْناني عَنِّي، فَمَتَّعني؛ أو غَيَّبَني عَنِّي، فروحني].
قال صاحب كتاب "عوارف المعارف"، في "القبض"، و "البسط":
(العَارِفونَ إِذَا بُسِطُوا، أَخْوَفُ مِنْهُم إِذا قُبِضُوا؛ و لا يَقِفُ على حُدُودِ الأدبِ في البَسْطِ، إلا قَليلٌ):
إنما اشتد خوف العارفين في البسطِ، ما لم يشتد في القبضِ، من قِبَل مُلائمتهِ لهوى أَنفُسهم؛ بخلاف القبضِ.
فيخافونَ حِينَئِذٍ من رُجُوعهم إليهِ، و ذَوقِهم لِطَعمِ نُفوسِهِم، و في ذلكَ الطَّردُ، و البُعدُ.
و قد كتب يوسف بن الحسين الرازي، إلى الجنيد رضي الله تعالى عنهما: [لا أذاقكَ الله طعمَ نفسِكَ؛ فإنك إِن ذُقتَها، لا تذوقُ بعدَها خَيْراً أَبداً].
و من ثمَّ يتأكد عليهم في ذلك ملازمةُ الأدبِ، و دَوامُ الانقباضِ، و الانكسارِ، و ذلك أمرٌ عسيرٌ في هذهِ الحالِ؛ و لذلك لا يقفُ على حدودِ الأدبِ في البسطِ، إلا قليلٌ.
و قد قيل: "قف على البساطِ، و إياك و الانبساطَ".
و قال رجلٌ، لأبي محمد الجريري رضي الله تعالى عنه: [كنتُ على بساطِ الأنسِ، و فَتَحَ عليَّ طريقَ البسطِ، فزللتُ زَلّةً، فحُجِبتُ عن مَقامي؛ فكيف السبيل إليهِ، دُلَّني على الوصولِ إلى ما كنتُ عليهِ؛ فبكى أبو محمد، و قال: يا أخي، الكلُّ في قهرِ هذه اللَّحْظَةِ؛ لَكِنِّي أنشدت أبياتاً لبعضهم، و أنشأَ يقولُ:
قف بالديارِ، فهذهِ آثارُهمْ * تبْكِي الأحبةَ، حسرةً، و تَشَوُّقَا
كم قد وقفتُ برَبْعِها مُسْتَخبِراً، * عن أهلِها، و سَائِلاً، أو مُشفِقا
فأجابَنِي دَاعي الْهَوَى، في رَسْمِها: * فارقتَ من تَهْوَى، فَعَزَّ الْمُلتَقَى]
و سُئِل بعضُ المشايخِ عن هذه الزلةِ، فقال: [انبِساطٌ مع الحقِّ، بغيرِ أدبٍ].
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري رضي الله تعالى عنه: [و من هذا، خشِيَ الأكابرُ، و السادةُ].
قال في "لطائف المنن": [البسطُ مزَلَّةُ أقدامِ الرجالِ؛ فهو مُوجِبٌ لِمَزيدِ حَذَرِهمْ، و كثْرةِ لَجْئِهِمْ.
و القبضُ أقربُ إلى وجودِ السلامةِ، لأنَّه وَطنُ البُعدِ، إذْ هو في أَسْرِ قبضةِ اللهِ، و إِحاطةُ الحقِّ مُحيطَةٌ بهِ؛ و من أين يكون للعبد البسطُ، و هذا شأنهُ!
و القبضُ، هو اللائقُ بهذهِ الدارِ؛ إذ هِيَ وطنُ التكليفِ، و إِبْهامُ الخاتمةِ، و عَدمُ العلمِ بالسابقةِ، و الْمُطالبةُ بحقوقِ اللهِ تعالى.
قال: و أخبرني بعض الصوفية، قال: رأى شيخنا شيخهُ في المنامِ، بعد موتهِ، مقبوضاً، فقال له: يا أستاذ، مالك مَقْبوضاً؟ فقال له: يا بني، القبضُ و البسطُ مقامانِ، من لم يوفِّهِما في الدُّنيا، وَفَّاهُما في الآخرةِ؛ قال: و كان هذا الشيخُ الغالبُ عليه في حياتهِ البسط]؛ انتهى.
(البسطُ، تأخذ النفسُ منه حظَّهَا، بوجود الفرحِ؛ و القبضُ، لا حَظَّ للنفسِ فيهِ):
في هذا إشارةٌ لما تقدمَ، من أن مراعاة الأدبِ في البسطِ، أمرٌ عسيرٌ.
و ذلك أن في البسطِ، وجودَ حظِّ النفسِ، فيستولي عليها الفرحُ بذلك، فلا يتمالكُ حتى يقع في سوءِ الأدبِ؛ و القبضُ ليس فيه حظٌّ للنفسِ، فلذلكَ كان أسلمَ.
و كان الأستاذ أبو علي الدقاق رضي الله تعالى عنه، يقول: [القبضُ، حَقُّ الحقِّ منكَ؛ و البسطُ، حقُّ العبدِ منهُ؛ و لَأَنْ يكون بحقهِ مِنْكَ، أَتَم، من أن يكونَ بِحظِّكَ منهُ].
و أما آداب القبضِ، و البسطِ، فلا أعلم الآن من استوفى الكلام فيهما، من علماء الصوفيةِ، و مُصنفيهم؛ و إنما وجدنا لهم من ذلك إشارات إلى أمور جملية.
كقول الإمام أبي القاسم القشيري رضي الله تعالى عنه، بعد أن تكلم على لفظتي "القبض"، و "البسط"، و تبين معانيهما، إلى أن قال: [و قد يكون قبضٌ، يُشكِلُ على صاحبهِ سبَبُهُ، يجدُ في قلبهِ قَبْضاً، لا يَدْري ما مُوجِبُه، و سَبَبُهُ.
و سبيلُ صاحبِ هذا القبضِ، التسليمُ، حتى يمضِيَ ذلكَ الوقتُ؛ لأنهُ لو تَكَلَّفَ نفيَهُ، أو اسْتَقْبلَ الوقتَ، قبلَ هُجومِهِ عليهِ، باختيارهِ، زادَ في قَبْضِهِ؛ و لعلَّه يفيدُ ذلكَ منهُ سوءَ أدبٍ.
و إذا استسلمَ لحكمِ الوقتِ، فعَنْ قريبٍ يزولُ القبضُ، فإن الحق سبحانه قالَ: ﴿وَ اللّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْسُطُ﴾[البقرة:245].
و قد يكون بسطٌ يَرِدُ بَغتةً، و يُصادفَ صاحِبَهُ فَلْتَةً، لا يَعرِفُ لهُ سَبباً، يهُزُّ صاحبَهُ، و يسْتَفِزُّه؛ فسبيل صاحِبِهِ السُّكونُ، و مُراعاةُ الأدبِ؛ فإنَّ في هذا الوقتِ لهُ خَطرٌ عَظيمٌ، فلْيحْذَر صاحِبُهُ مَكْراً خَفِياًّ.
قال سيدي أبو الحسنِ الشاذلي رضيَ الله تعالى عنهُ: [القبضُ، و البسطُ، قلَّما يخلو العبدُ منهما، و هما يَتعاقَبانِ، كتعاقب الليلِ و النهارِ، و الحق سبحانَه يرتضي منك العبوديةَ فيهِمَا.

فمن كان وقتُهُ القبضَ، فلا يخلُو من أن يعلمَ سبَبَهُ، أو لا يعلمَ.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية