(بَسَطَكَ كَيْ لا يُبْقيكَ مع القبضِ، و قَبَضَكَ كي لا يَتْرُكَكَ مع الْبَسْطِ، و أخْرَجَكَ عنهُما كَي لا تكونَ لشَيْءٍ دونَهُ)
"القبضُ"، و "البسطُ"، من الحالاتِ التِي يتَلَوَّنُ بها العارِفونَ، و هُما بمنزلةِ "الخوفِ"، و "الرجاءِ" للمريدينَ المبتدئينَ.
و سبَبُهُما: الوارداتُ التي تَرِدُ على باطنِ العبدِ.
و قُوَّتُهما، و ضَعْفُهما: بحسَبِ قُوَّةِ الوارداتِ، و ضَعفِهَا.
و المقصودُ هَهُنا: أنهما وصفانِ، ناقصانِ، بالنسبة إلى ما فوقهما؛ فإِنَّهما يَقتَضِيانِ بقاءَ العبدِ، و وُجودَهُ.
فمن لطف الله بعبده، تكوينَهُ فيهِمَا، ثُمَّ إِخراجَهُ عنْهُمَا، بفنائهِ عن نَفْسِهِ، و بقائِهِ بِرَبِّه.
قال فارس رضي الله تعالى عنه: [القبضُ أوَّلاً، ثمَّ البسطُ، ثم لا قَبْضٌ، و لا بَسْطٌ].
لأن القبضَ، و البسطَ، يَقَعانِ في الوجودِ، و أما معَ الفناءِ، و البقاءِ، فلا.
و كان الْجُنيْد رضي الله تعالى عنه يقولُ: [الخوفُ يقبِضُنِي، و الرَّجاءُ يَبْسُطني، و الحقيقةُ تَجْمَعُني، و الحقُّ يفرقني؛ إذا قبضَني بالخوفِ، أفناني عَنِّي؛ و إذا بَسَطنِي بالرجاءِ، ردَّنِي عليَّ؛ و إذا جَمَعَني بالحقيقةِ، أحْضَرَني؛ و إذا فَرقني بالحقِّ، أشْهَدَنِي غيري، فغَطَّاني عنهُ؛ فهو في ذلك كلهِ مُحَرِّكِي، غير مُسَكني؛ و مُوحِشِي، غير مُؤنِسِي؛ فحُضُوري، لِذَوْق طَعمِ وُجُودي؛ فَلَيْتَه أَفْناني عَنِّي، فَمَتَّعني؛ أو غَيَّبَني عَنِّي، فروحني].
قال صاحب كتاب "عوارف المعارف"، في "القبض"، و "البسط":
(العَارِفونَ إِذَا بُسِطُوا، أَخْوَفُ مِنْهُم إِذا قُبِضُوا؛ و لا يَقِفُ على حُدُودِ الأدبِ في البَسْطِ، إلا قَليلٌ):
إنما اشتد خوف العارفين في البسطِ، ما لم يشتد في القبضِ، من قِبَل مُلائمتهِ لهوى أَنفُسهم؛ بخلاف القبضِ.
فيخافونَ حِينَئِذٍ من رُجُوعهم إليهِ، و ذَوقِهم لِطَعمِ نُفوسِهِم، و في ذلكَ الطَّردُ، و البُعدُ.
و قد كتب يوسف بن الحسين الرازي، إلى الجنيد رضي الله تعالى عنهما: [لا أذاقكَ الله طعمَ نفسِكَ؛ فإنك إِن ذُقتَها، لا تذوقُ بعدَها خَيْراً أَبداً].
و من ثمَّ يتأكد عليهم في ذلك ملازمةُ الأدبِ، و دَوامُ الانقباضِ، و الانكسارِ، و ذلك أمرٌ عسيرٌ في هذهِ الحالِ؛ و لذلك لا يقفُ على حدودِ الأدبِ في البسطِ، إلا قليلٌ.
و قد قيل: "قف على البساطِ، و إياك و الانبساطَ".
و قال رجلٌ، لأبي محمد الجريري رضي الله تعالى عنه: [كنتُ على بساطِ الأنسِ، و فَتَحَ عليَّ طريقَ البسطِ، فزللتُ زَلّةً، فحُجِبتُ عن مَقامي؛ فكيف السبيل إليهِ، دُلَّني على الوصولِ إلى ما كنتُ عليهِ؛ فبكى أبو محمد، و قال: يا أخي، الكلُّ في قهرِ هذه اللَّحْظَةِ؛ لَكِنِّي أنشدت أبياتاً لبعضهم، و أنشأَ يقولُ:
قف بالديارِ، فهذهِ آثارُهمْ * تبْكِي الأحبةَ، حسرةً، و تَشَوُّقَا
كم قد وقفتُ برَبْعِها مُسْتَخبِراً، * عن أهلِها، و سَائِلاً، أو مُشفِقا
فأجابَنِي دَاعي الْهَوَى، في رَسْمِها: * فارقتَ من تَهْوَى، فَعَزَّ الْمُلتَقَى]
و سُئِل بعضُ المشايخِ عن هذه الزلةِ، فقال: [انبِساطٌ مع الحقِّ، بغيرِ أدبٍ].
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري رضي الله تعالى عنه: [و من هذا، خشِيَ الأكابرُ، و السادةُ].
قال في "لطائف المنن": [البسطُ مزَلَّةُ أقدامِ الرجالِ؛ فهو مُوجِبٌ لِمَزيدِ حَذَرِهمْ، و كثْرةِ لَجْئِهِمْ.
و القبضُ أقربُ إلى وجودِ السلامةِ، لأنَّه وَطنُ البُعدِ، إذْ هو في أَسْرِ قبضةِ اللهِ، و إِحاطةُ الحقِّ مُحيطَةٌ بهِ؛ و من أين يكون للعبد البسطُ، و هذا شأنهُ!
و القبضُ، هو اللائقُ بهذهِ الدارِ؛ إذ هِيَ وطنُ التكليفِ، و إِبْهامُ الخاتمةِ، و عَدمُ العلمِ بالسابقةِ، و الْمُطالبةُ بحقوقِ اللهِ تعالى.
قال: و أخبرني بعض الصوفية، قال: رأى شيخنا شيخهُ في المنامِ، بعد موتهِ، مقبوضاً، فقال له: يا أستاذ، مالك مَقْبوضاً؟ فقال له: يا بني، القبضُ و البسطُ مقامانِ، من لم يوفِّهِما في الدُّنيا، وَفَّاهُما في الآخرةِ؛ قال: و كان هذا الشيخُ الغالبُ عليه في حياتهِ البسط]؛ انتهى.
(البسطُ، تأخذ النفسُ منه حظَّهَا، بوجود الفرحِ؛ و القبضُ، لا حَظَّ للنفسِ فيهِ):
في هذا إشارةٌ لما تقدمَ، من أن مراعاة الأدبِ في البسطِ، أمرٌ عسيرٌ.
و ذلك أن في البسطِ، وجودَ حظِّ النفسِ، فيستولي عليها الفرحُ بذلك، فلا يتمالكُ حتى يقع في سوءِ الأدبِ؛ و القبضُ ليس فيه حظٌّ للنفسِ، فلذلكَ كان أسلمَ.
و كان الأستاذ أبو علي الدقاق رضي الله تعالى عنه، يقول: [القبضُ، حَقُّ الحقِّ منكَ؛ و البسطُ، حقُّ العبدِ منهُ؛ و لَأَنْ يكون بحقهِ مِنْكَ، أَتَم، من أن يكونَ بِحظِّكَ منهُ].
و أما آداب القبضِ، و البسطِ، فلا أعلم الآن من استوفى الكلام فيهما، من علماء الصوفيةِ، و مُصنفيهم؛ و إنما وجدنا لهم من ذلك إشارات إلى أمور جملية.
كقول الإمام أبي القاسم القشيري رضي الله تعالى عنه، بعد أن تكلم على لفظتي "القبض"، و "البسط"، و تبين معانيهما، إلى أن قال: [و قد يكون قبضٌ، يُشكِلُ على صاحبهِ سبَبُهُ، يجدُ في قلبهِ قَبْضاً، لا يَدْري ما مُوجِبُه، و سَبَبُهُ.
و سبيلُ صاحبِ هذا القبضِ، التسليمُ، حتى يمضِيَ ذلكَ الوقتُ؛ لأنهُ لو تَكَلَّفَ نفيَهُ، أو اسْتَقْبلَ الوقتَ، قبلَ هُجومِهِ عليهِ، باختيارهِ، زادَ في قَبْضِهِ؛ و لعلَّه يفيدُ ذلكَ منهُ سوءَ أدبٍ.
و إذا استسلمَ لحكمِ الوقتِ، فعَنْ قريبٍ يزولُ القبضُ، فإن الحق سبحانه قالَ: ﴿وَ اللّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْسُطُ﴾[البقرة:245].
و قد يكون بسطٌ يَرِدُ بَغتةً، و يُصادفَ صاحِبَهُ فَلْتَةً، لا يَعرِفُ لهُ سَبباً، يهُزُّ صاحبَهُ، و يسْتَفِزُّه؛ فسبيل صاحِبِهِ السُّكونُ، و مُراعاةُ الأدبِ؛ فإنَّ في هذا الوقتِ لهُ خَطرٌ عَظيمٌ، فلْيحْذَر صاحِبُهُ مَكْراً خَفِياًّ.
قال سيدي أبو الحسنِ الشاذلي رضيَ الله تعالى عنهُ: [القبضُ، و البسطُ، قلَّما يخلو العبدُ منهما، و هما يَتعاقَبانِ، كتعاقب الليلِ و النهارِ، و الحق سبحانَه يرتضي منك العبوديةَ فيهِمَا.
فمن كان وقتُهُ القبضَ، فلا يخلُو من أن يعلمَ سبَبَهُ، أو لا يعلمَ.