( ومتى كنت إذا أعطيت بسطك العطاء ، وإذا منعت قبضك المنع ، فاستدل بذلك على ثبوت طفوليتك ، وعدم صدقك في عبوديتك )
الطفولية والتطفل هو الدخول في قوم وليس منهم ولم يستأذنهم والطفيلي : هو الذي يأتي للوليمة من غير دعوة , وهو منسوب إلى رجل من أهل الكوفة من بني عبد الله بن غطفان كان يقول له طفيل الأعراس :كان يأتي إلى الولائم من غير أن يدعي إليها فشبه المؤلف به من دخل مع القوم ولم يتحقق بما تحققوا به من استواء الأحوال , فإذا كنت أيها الفقير إذا أعطيت حظوظك ومناك واتصلت بعوائدك وهواك , من الغنى والعز والجاه والبسط والصحو والعافية , وغير ذلك من الحظوظ والشهوات انبسطت وفرحت , وإذا منعت من حظوظك وشهواتك وأبدلك الغني بالفقر , والعز بالذل , والجاه بالخمول , والبسط بالقبض والصحة بالمرض , والعافية بالبلية , انقبضت وجزعت فاستدل بذلك على ثبوت تطفلك على كلامهم , ولا نسبة لك من مقامهم , وإنما أنت طفيلي الأعراس , مازلت في غفلة النعاس , واستدل بذلك أيضاً على عدم صدقك في عبوديتك إذ الصدق في العبودية يقتضي استواء النعمة والبلية .
قال أبو عثمان الحيري رضي الله عنه : لا يكمل الرجل حتى يستوي قلبه في أربع أشياء :في المنع والعطاء والعز والذل.
فإذا كان الفقير يتضعضع عند الجلال , وينهزم عند حملة الأبطال , فاعلم انه ضعيف الحال , متطفل على مقامات الرجال .
قال في التنوير : وقد ابتلى الله بحكمته ووجود منته الفقراء الذين ليسوا بصادقين , بإظهار ما كتموا من الرغبة وأسروا من الشهوة , فابتذلوا أنفسهم لأبناء الدنيا مباسطين لهم ملايمين لهم , موافقين لهم على ملذوذاتهم , مدفوعين على أبوابهم فترى الواحد منهم يتزين كما تتزين العروس , معتنون بإصلاح ظواهرهم , غافلون عن إصلاح سرائرهم , ولقد وسمهم الحق بسمة كشف بها عوارهم وأظهر أخبارهم , فبعد أن كانت نسبته أن لو صدق مع الله أن يقال فيه عبد الكبير , فخرج من هذه النسبة لعدم صدقه فصار يقال له شيخ الأمير أولئك الكاذبون على الله , الصادون العباد عن صحبة أولياء الله , لأن ما يشهده العموم منهم يسحبونه على كل منتسب لهم , صادق وغير صادق فهم حجب أهل التحقيق , وسحب شموس أهل التوفيق
ضربوا طبولهم , ونشورا أعلامهم , ولبسوا دروعهم , فإذا وقعت الحملة ولّوا على أعقابهم ناكصين , ألسنتهم منطلقة بالدعوى وقلوبهم خاوية من التقوى , ألم يسمعوا قوله تعالى : { ليسئل الصادقين عن صدقهم } أترى إذا سأل الصادقين عن صدقهم , أيترك المدعين من غير سؤال ؟ ألم يسمعوا قوله سبحانه :{ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون }فهم في الظاهر فى زي الصادقين , وعملهم عمل المعرضين كما قال القائل :
أما الخيام فإنها كخيامهم
وارى نساء الحي غير نسائها
لا والذي حجت قريش بيته
مستقبلين الركن من بطحائها
ما أبصرت عيني خيام قبيلة
ألا بكيت أحبتي بفنائها
وحاصلها : آداب المريد في المدح والذم , ومرجعها إلى خمسة :
الأول : ذم النفس عند مدحها بما ليس فيها
الثاني : استحياؤه من الله أن يمدح بوصف لا يشهده من نفسه
الثالث : أن يرجع إلى يقين ما عنده عليه , ولا يغتر بظن ما عند الناس فيعتمد عليه .
الرابع : أن يكثر من الحمد والشكر لمولاه , حيث ستر عيوبه وأظهر توفيقه وهداه .
الخامس : أن يكون معتدل الحال سليم القلب فلا يحزن عند الذم ولا يفرح عند المدح .
قال بعض العارفين : إذا قيل لك نعم الرجل أنت فكان أحب إليك من أن يقال لك بئس الرجل أنت : فأنت والله بئس الرجل،وجاء رجل إلى الشيخ مولاي العربي رضي الله عنه فجعل يمدحه في وجهه , فقال له : يا هذا لا تغرني بقولك , أنا أعرف نفسي حين أكون أفضل الوجود أو أقل الوجود , فالوقت الذي أكون فيه ذاكراً لربي أنا أفضل الوجود , والوقت الذي لا أذكر الله فيه أنا أقل الوجود أو كلام هذا معناه لكن هذا الآدب الخامس يختلف باختلاف الأحوال .
فالعباد يغلبون حب الذم على المدح , والعارفون يغلبون حب المدح على الذم أو يعتدلون كما يعتدلون في حال المنع والعطاء والقبض والبسط , والذل والعز , والفقر والغنى وغير ذلك من اختلاف الآثار , وتنقلات الأطوار , ومن جملة ذلك الخوف والرجاء بحيث إذا صدرت منهم طاعة لا يزيد رجاؤهم , وإذاوقعت منهم زلة لا يعظم خوفهم ولا تنقص استقامتهم.