الآداب التي تلزم المريد
هي ثلاثة أقسام باعتبار أحواله:
آداب تلزمه في نفسه
و آداب تلزمه مع شيخه
وآداب تلزمه مع إخوانه
وبدأ الشيخ بالقسم الأول فقال رضي الله عنه:
وآداب المريد مع نفسه
يعجبك تالله الإقتداء به
تجده مطهرا أيضا نظيفا
وعارفا حكم العبادة عفيفا
مراقبا له في كل الأحوال
حريصا على الطاعة والامتثال
يعني أن آداب المريد مع نفسه جميلة لطيفة تلوح على ظاهره, وطريقه يعجبك وتطيب نفسك للإقتداء به ومتابعته لما تحلى به من حلة الأوصاف فإنك تجده مطهرا من جميع الأوصاف الرذيلة متزينا بالأوصاف الجميلة مطهرا جوارحه السبعة ومطهرا باطنه من الحسد والعجب ورؤية الغير, و مطهرا أيضا بدنه وثيابه ومكانه وهي طهارة الخبث, ومطهرا مما تعافه النفوس الأبية والآداب الشرعية وعارفا حكم العبادة من أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج وتجده عفيفا ينطبق عليه قوله تعالى: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم [البقرة : 273] وتجده أيضا مراقبا لله تعلى في جميع أحواله فلا تراه في موضوع نهى الله عنه, فكل حركاته وسكناته مراقبا فيها جناب الحق جل وعلا.
فكن خاشعا لله في كل حالة تكن مؤمنا تزهو بنور يقين وتجده حريصا على طاعة بجميع أنواعها من اجتناب ما نهى الله عنه وامتثال ما أمر الله به فإن ذلك دأب أهل الله وما أحسن ما قيل:
وأطيعوا وجدوا ولا تكسلوا
فإنكم إلى الله راجعون
ولا تهجعوا فالأكابر كانوا
قليلا من الليل ما يهجعون
ثم أخذ الشيخ في الكلام على آداب المريد مع إخوانه فقال رضي الله وأرضاه :
أدبه يا صاح مع إخوانه
إذ دائما يؤثرهم عن نفسه
ينهض لأمرهم كأنه مملوك
يقبل أيديهم ينفي الشكوك
ليس له حق من بين حقهم
والأمر من حيث هو بقولهم
يعني أن المريد يلزمه آداب يفعلها مع إخوانه في طريق الله منها أنه يؤثرهم على نفسه أي يقدمهم عليها ليكون من الذين قال الله فيهم: يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [الحشر : 9]فالمريد يلزمه أن يؤثر إخوانه بماله وروحه أما الإيثار بالمال بأن يعين فقيرهم ويكفيه إراقة ماء وجهه وأما الإيثار بالروح نعت الصادقين ذوي المحبة واليقين كما قال ابن الفارض :
إذا جاد أقوام بمال رأيتهم
يجودون بالروح منهم بلا بخل
فقد آتهم جماعة من الصوفية بأنهم زنادقة فقدموهم ليضربوا أعناقهم فسارع أحدهم إلى السيف فقيل له في ذلك فقال: لأوثر أصحابي بعدي بالحياة بقدر ضربة السيف فلما تحققوا صدقهم وكمالهم خلوا سبيلهم فأنت تراه قد آثر إخوانه بروحه ومنها أن يكون سميعا مطيعا ينهض لأمرهم كأنه مملوك,فهو عبد وهم أسياده ويكون كمن قال:
لي سادة من عزهم
أقدامهم فوق الجباه
إن لم أكن منهم فلي
في حبهم عز وجاه
ومنها أن يقبل أيديهم للتبرك بنفي الشكوك والأوهام من قلبه فيسارع لتقبيل أيديهم تعظيما لهم بحيث يجعلهم في مرتبة شيخه ومنها أن يداريهم لقوله صلى الله عليه وسلم أمرت بالمداراة, ولبعضهم:و من يدري دارى ومن لم يدر سوف يدري عن قريب نديما للندمات ومنها أن يقول على القول الذي اتفقوا عليه وإن كان على صواب لا يخالفهم لأن المخالفة تورث الشقاق و المباينة وتحل عقدة الإتفاق وذلك مذموم عند كل عاقل وعلى كل حال ترك الإجمال باطل ومنها أنه يرضيهم ويتذلل لديهم لأنهم أهل الله وملوك حضرته وكان سيدي إبراهيم الدسوقي يقول: الفقراء كالملوك فمن لا يعرف أدب الملوك لا ينبغي له مجالستهم لأنه ربما جره عدم احترامهم إلى العطب ومنها أن لا يكون له حق يختص به من بين حقوقهم بل كله مملوك لهم وأمره بيدهم كما قال الله تعالى:وأمرهم شورى بينهم [الشورى : 38] أي شائع بينهم فهو فيه سواء ولذلك قال إبراهيم شيبان: كنا لا نصحب من يقول : نعلي، ثم قال الشيخ رضي الله عنه:
إن طردوه يأتيهم معتذرا
إن كان مظلوما فلن ينتصر
فلا يكن متبعا عورتهم
لا ينظر ما سبق من فعلهم
يعني أن من آداب المريد مع إخوانه إذا أطردوه وهجروه تأديبا له يأتهم معتذرا مقدما لهم عذره طالبا الصفح منهم عما ارتكبه ومنها أن لا ينتصر لنفسه ويدافع عنها إن كان مظلوما أي ظلمه أحد الفقراء قال أبو الحسن الشاذلي: إذا انتصر الفقير لنفسه وأجاب عنها فهو والتراب سواء وقال أيضا: إذا طالب الولي النصرة على من ظلمه خرج من الولاية.
نعم: إن الله يدافع عن الذين آمنوا [الحج : 38] وقال تعالى: من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب أما الفقير فشأنه العفو والصفح لقوله تعالى: وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم [التغابن : 14]
ومنها أن لا يكون متبعا عوراتهم أي متجسسا عليهم فالواجب عليه ستر ما يطلع عليه من عيوبهم وما ستر عبد عبدا إلا ستره الله يوم القيامة لأن الصحبة من لوازمها التغافل عن زلات الصاحب التي يفعلها معك أو مع غيرك والتغابي عنها على حد قول بعضهم:ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد القوم المتغابي.
نعم إن الواجب على المريد نصح من رأى منه عيبا من إخوانه لأنهم متفقون على التواصي بالحق قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله إمرءاً أهدى إلي عيوب نفسي, ومنها ألا يكون ناظرا لما سبق من أفعالهم قبل التوبة والدخول في الطريق لأن نور التوبة يذهب بظلمة المعاصي ولأن التوبة تمحو ما قبلها كالإسلام يمحو ما قبله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له و: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [البقرة : 222]
ثم قال الشيخ رضي الله عنه:
يحسن الظن في الكبير و الصغير والكل عنده ولي ذاكر
يسألهم في صالح الدعوات يجه بجاههم في المهمات
يحبهم في الله حبا زائدا يكون في نفعهم مجتهدا
يعني أن من آداب الفقير, مع إخوانه أنه يحسن ظنه في الصغير والكبير منهم لقوله صلى الله عليه وسلم: خصلتان ليس فوقهما من الخير خصلة..حسن الظن بالله وحسن الظن بالعباد ولا يسيء الظن بأحد منهم ولا كان مسيئا بل ينبغي له أن يحترمهم ويراعيهم ويعتبرهم كلهم أولياء الله الذاكرين كيف لا ؟ والحال أنهم من أولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ومنها أن يسألهم في دعواتهم الصالحة لقوله تعالى: ادعني بلسان لم تعصني به قط, ولا سيما من لسان ذاكر وقلب شاكر ومنها أنه يتوجه لله تعالى بجاههم ويتوسل بالأولياء والصالحين والأنبياء والمرسلين ومنها أنه يحبهم في الله محبة زائدة أي قوية عظيمة ليناديهم الحق يوم القيامة أين المتحابون في؟ ويظلهم تحت عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
ومنها أنه يجتهد في نفعهم وإيصال الفوائد لهم وييسر على معسرهم لما في الحديث: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. فقم أيها المريد بما يلزم للإخوان وبادر إليهم بالإكرام والإحسان.
ثم قال الشيخ رضي الله عنه:
يحميهم في حضورهم كذا
في الغيب ينصرهم لا يقبل
فيهم كذا من عيب يؤول
ما يسمع من نقصهم
لا يتخلف دوما عن جمعهم
و إن يكن شريف القدر في نفسه
لعل ذي الجماعة تشفع به
يد الله مع الجماعة يقال والجمع رحمة والفرقة ضلال يعني من آداب المريد الواجبة عليه في حق إخوانه أن يحميهم أي يعينهم ويعاضدهم في حضورهم ومغيبهم بحيث لا يقبل أي لا يسمع من أحد فيهم عيبا أي شتما بل الواجب أن يدافع عنهم وينصرهم ويدحض حجة المنكرين عليهم حتى إذا سمع في حقهم نقصا صدر من أحدهم أوله وأخرجه على وجه حسن كل ذلك ليبلغ درجة حسن الظن ودراجة من الستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة فالواجب على المريد أن يرى جميع إخوانه على أكمل سيرة وأطيب سريرة, يلازم حلق ذكرهم ويتبرك بجمعهم, دأبه معهم الحضور والتوجه إلى المذكور ولذلك قال الشيخ: لا يتخلف دوما عن جمعهم أي لما فيه من المنافع الكثيرة والأسرار الغزيرة, فالفرق بين انفراد المريد واجتماعه مع إخوانه وحضوره في جماعة كالفرق بين من يصلي فذا ومن يصلي في جمعة والاجتماع يربي بين القلوب ألفة رحمانية جالبة للمودة والتعاون, والمؤمن للمؤن كالبنيان المرصوص يشد بعضه لبعضا والمريد واجب عليه الاجتماع ولو كان رفيعا في ذاته, تحدثه نفسه بأن الفقراء لا فائدة تلحقه مهم لأنه إما أن يستفيد وإما أن يفيد فينفع إخوانه ويكون في إعانتهم وعلى كل حال فالإفتراق نهى عنه الله تعالى فقال: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين [الأنفال : 46]و الاجتماع ممدوح يحبه الله و رسوله, ويد الله مع الجماعة ولذلك قال الشيخ والجمع رحمة والفرقة ضلال.
آداب المريد مع شيخه:
ثم أخذ الشيخ في الكلام على آداب المريد مع شيخه فقال رضي الله عنه:
وآداب المريد مع شيخه متحتم لكي ينتفع به
والإقتداء يصح بشروطه أذكر منها للمريد كي ينتبه
الصدق المحبة مع التعظيم النية الامتثال التسليم
يصدقه في فعله والمقال يحبه محبة بلا مثال
بها المريد دائما متصل كان الخليل مع من يخالل
يعني أن المريد واجب عليه أن يتأدب مع شيخه ليحصل له به الانتفاع, أما الإساءة معه فإنها مضرة للمريد لأنه متبع له ومقتد به والإقتداء يشترط لصحته شروط لا بد من تحصيلها, أخبر الشيخ أنه يذكر البعض منها لكي ينتبه المريد من غفلته وإساءته ويتحلى بأنواع الأدب وجميل صفاته وذكر في البيت الثالث ستة شروط لا منها للمريد مع شيخه وهي:الصدق والمحبة والتعظيم والامتثال والنية والتسليم وستأتي مفصلة على الترتيب وبدأ الشيخ بالكلام على الصدق والمحبة فأخبر في البيت الرابع أن المريد واجب عليه أن يصدق مع شيخه في الفعل والقول بأن يكون ظاهره موافقا باطنه في كل ما يفعله أو يقوله وأن المريد واجب عليه أن يحب شيخه أقوى من محبة جميع الخلق لأنه أب روحه ومولى لطيفه ولذلك قال: محبة بلا مثال أي لا يحب أحدا مثل شيخه لأن المريد متصل به بواسطة مودته وكل خليل مع من يخالل فالاتصال إنما هو بالمحبة وكمال الرغبة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب.
ثم أخذ في الحديث عن التعظيم فقال رضي الله عنه:
يعتبره في الغيبة مع الحضور يعظمه تعظيما بقدر الشعور
وإن رأى في سيره ما يكر ه بمقتضى عدم العصمة وصفه
يعني أن المريد من الآداب اللازمة له والواجبة عليه مع شيخه أن يعتبره أي يهابه ويعظمه سواء كان شيخه غائبا عنه أو حاضرا معه ويعظم جانبه ويحترمه ويكون ذلك من جانب تعظيم الله لأن المشايخ كما قال ابن العربي نواب الحق في العالم كالرسل عليهم الصلاة والسلام في زمانهم غير أن المشايخ لا تشريع لهم إنما هم ورثة الأنبياء والرسل في الشرائع, فلهم الحفظ في العموم قال ابن العربي:
ما حرمة الشيخ إلا حرمة الله فقم بها أدبا لله بالله
هم الأدلاء والقربى توديهم على الدلالة تأييد على الله
الوارثون هم للرسل أجمعهم فما حديثهم إلا عن الله
كالأنبياء تراهم في محاربهم لا يسألون من الله سوى الله
وأخبر في البيت الثاني أن المريد إذا رأى في سيرة شيخه ما هو مكروه ومخالف فلا ينفر عنه ويفر منه بل الواجب أن يلتمس له أحسن تأويل ويكون ذلك من باب ما يقتضيه عدم العصمة التي هي مختصة بالرسل عليهم الصلاة والسلام فلا يشاركهم فيها أحدثم أخذ الشيخ في الكلام على النية فقال رضي الله عنه:
"نيته فيه أنه واصل للحضرة الإلهية موصل" يعني أن من آداب المريد مع شيخه أن يكون معه ذا نية صالحة وعقيدة ناجحة فيعتقد فيه أنه واصل للحضرة الإلهية وموصل للمريدين إليها ثم قال الشيخ رضي الله عنه:
ويمتثل لأمره فيما أراد ولا يرى لغيره عليه يد
إلا لشيخه عليه فلزم لأن الاستمداد منه منسجم
يعني أن المريد واجب عليه أن يمتثل لشيخه فيما أراد ولا يخالفه في شيء ما فإن ذلك موجب للإبعاد فإن قال له افعل فعل وإن قال له اترك ترك وامتثل فيؤثر أمره على جميع المخلوقات ولا يرى يدا عليه لأحد إلا لشيخه قال سيدي أحمد عرب الشرنوبي:بالواجب المشهور إيثار أمره وإظهاره بالصدق دون البرية فالواجب أن يمتثل لأمره ويكون كالميت عند مغسله وكيف يعترض عليه ويخالفه فيما أشار به إليه أو يؤثر عليه غيره والحال أنه أخذ عنه واستمد منه,كلا, بل يلقي له القيادة ويسلم له فيما أراد.ثم قال الشيخ رضي الله عنه:
يسلم له في القول والفعال والمشتبه يرى له فيها احتمال
يعني أن من آداب المريد مع شيخه أن سلم له في القول وفي الفعل ولا يعترض عليه في شيء حتى إذا رأى منه ما اشتبه عليه حكمه يحمله على أوفق الاحتمالات التي تليق بمقامه فاسمع القول الذي تقدم وأصغ لما يأتيك وترنم.
ثم قال الشيخ رضي الله عنه:
لا يسأل عن حجة ولا دليل يلتمس لقوله حسن التأويل
و إن سأل فعما قد يعنيه إن لم يجبه لا شيء عليه
إن معه تكلم فبتحفظ وإن جلس أولى له بالأرض
إن طهرت وإلا في أدنى منزل إلا إذا قربه فيمتثل
ولا ينام عنده مختارا لا يسهى عن تذكاره اعتبارا
إن عنده قد دخل بأمره كذاك الانتشار من مجلسه
يكون آلة له محصلا بيده مطاوعا ممتثلا
يعني أن المريد من آدابه مع شيخه ألا يسأل حجة ولا دليلا على قوله الذي ذاكره به بل يتحقق أنه لم يتكلم معه بشيء من العلوم إلا وله دليل وإن لم يطلع عليه المريد, إنما يلتمس له أحسن تأويل لما قاله ويحمله على سبعين محملا وإذا وقع ونزل وسأل المريد شيخه فليسأله عما يعنيه أي يفيده من أمور دينه وعما يقربه من الله زلفى من أمور طريقة ثم من آداب المريد إذا سأل شيخه ولم يجبه أن لا يرى بذلك بأسا ويقول المصلحة في عدم الجواب كما رأى الأستاذ, ونظره في ذلك واسع أجاب عن المسألة أو ترك الجواب و منها التكلم مع الشيخ بصوت مخفوض ولا يرفع صوته فوق صوته لأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [الحجرات : 2]
ومنها إذا جلس عند أستاذه أن يجلس على الأرض لأن ذلك شأن المتواضعين وهذا إذا كانت الأرض طاهرة وإلا فإنه يجلس في أدنى أي أقل منزل أي موضع إلا إذا قربه الأستاذ أي أمره بالقرب إليه فيقرب حينئذ امتثالا لأمره لأن الأدب في الامتثال.
ومنها أن ينام عند شيخه لما في ذلك من سوء الأدب وعدم الإكتراث بحرمه الشيخ إلا إذا اضطر إلى ذلك كأن لم يجد غير المحل الذي فيه الشيخ فلا بأس بذلك.
ومنها أن لا يسهو عن تذكيره بل يصغي له بجميع جوارحه ويكون معتبرا متفهما فيما يلقبه الشيخ ويذاكر به, فربما كان مراد الشيخ أن ينهض بالمريد له به في ذلك الوقت فهو في الحقيقة من أعظم الآداب اللازمة للمريد وكثيرا ما يأمرنا الأستاذ رضي الله عنه ويقول: آداب المريد في المذاكرة كآداب الجمعة, وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجلسه كأنما على رؤوسهم الطير, هيبة وإصغاء الحديث, وكيف يسهو والحال أنه يحدث عن محبوبه وغاية مناه و مرغوبه و إن حدثوا عنها فكلي مسامع وكلي إن حدثتهم ألسن تتلو ومنها إذا دخل عليه في محله الخاص به فلا يدخل حتى يأذن له بالدخول, فقد أراد عمر الدخول على رسول الله صلى الله عليه سلم و هو في الغرفة فلم يدخل حتى استأذن غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكثيرا ما يذاكرنا الشيخ في مثل ذلك ويقول إذا أراد أحدكم الدخول فليذكر الإسم الأعظم استئذانا فإن أذنت له وإلا فليرجع ومنها أنه إذا أراد الانتشار أي الخروج من مجلسه فلا يخرج إلا بإذنه والحاصل أن المريد يكون بيد شيخه كالآلة يرفعه تارة ويضعه أخرى, يطاوعه في كل ما يأمره به وينهاه عنه, إن أمره امتثل وإن نهاه إنزجر وخجل, يسعى فيما يرضيه ويجتهد فيما أقامه فيه,يؤثره على نفسه بالمال والروح ويفديه كما قال:
و إيثاره بالمال والروح والرضا وتفويضه لله في كل طرفة
الشيخ المربي
ثم انتقل الشيخ للكلام على صفات الشيخ المربي الذي يجب الاقتداء به فقال رضي الله عنه:
وأذكر من صفات المقتدى به لطالب لعله يخطئ به
أقول هو رجل قد عرف لب التوحيد بالبر متصفا
يعني أني أذكر لك أيها الطالب شيئا من صفات الشيخ المربي لتقتدي به وتسلم نفسك إليه ثم لتكون على علم كي لا تستعبد وجود المربي في زماننا وفيما يأتي من الزمان فإن فضل الله يؤتيه من يشاء وفي أي وقت يشاء, فلا ينحصر فضله في زمان أو مكان فالفضل بيد الله لا ممسك لفضله فأخبر في البيت الثاني أن الشيخ المربي هو رجل كسائر البشر له معرفة بلب التوحيد أي باطنه المسمى بعلم الباطن وعلم التصوف والعلم اللدني وعلم القوم وعلم الحقيقة, وكثرة الأسماء تدل على شرفا المسمى متصف بأنواع البر والخير بعيد عن الشر والضر, يوصل لحضرة القدس ويمحو الأوهام عن النفس وحبال النفس, فإذا لم يكن عارفا بالله وبالتوحيد الخاص فلا يصلحان يكون مربيا كما هو المشاهد فيمن يدعي المشيخة في زماننا
ثم قال الشيخ رضي الله عنه:
ولا يكون مرشدا إلا إذا قد كان عارفا مشاهدا كذا
مع علاج في النفوس مستمر على أمراض في القلوب مقتدر
وفي الشريعة ما يهمه من الأحكام لازم يعرفه
ويعمل بذلك قدر الإمكان وإلا هو مضرة على الإنسان
ويسرع المريد بالتنقل إن كان فيه شرط غير حاصل
يعني أن الشيخ المربي لا يكون مرشدا للعباد قائدا لهم إلى سبيل الرشاد إلا إذا كان عارفا بالله حق معرفته من أهل الشهود والعرفان والعيان لا من أهل الدليل والبرهان مرفوعا عنه الحجاب مستغرقا في الحضرة الوصول و الاقتراب, له معرفة بأمراض النفوس ومعالجتها, فإنه طبيب القلوب و به تشفى علتها, ماهر في الدواء يقطع عروق الشهوات والهوى ويمحو عن البصائر والأبصار رؤية السوى, وهذا حق على المريد أن يقبل عليه ويسلم نفسه إليه فإنه غنيمة يا له من غنيمة و منة من الله عظيمة.
قال بعضهم:
وغنم المريد في انقاد لكامل له خبرة بالعلم و الوقت والحال
هو الكنز الأكبر الكيمائي لمن أراد وصولا أو بغى نيل آمال
وله أيضا معرفة بعلوم الشريعة أي يعرف ما كان هاما له من الأحكام ومتعلقا به من صلاة و زكاة وصيام ولا يشترط فيه أن يكون محيطا بسائر الشريعة وإنما يعلم من الشريعة ما تمس به حاجته وتتوقف عليه عبادته ويكون عاملا بعلمه في الأحكام لأن ذلك يستلزم علم الوراثة كما في حديث سيد الأنام فإن كان الشيخ على خلاف ما ذكر مباينا لم سطر فهو مضرة على المريد وحجاب له من جديد, فالواجب حينئذ على المريد أن يسرع بالانتقال إلى شيخ آخر ذي قدم راسخ وحال شامخ
واعلم أن الشروط المتقدمة في الشيخ شروط صحة وله شروط كمال أشار له الشيخ بقوله:
شروط الكمال للأستاذ فاعرفه رسوخه يعتبر في المعرفة
وورعا و زاهدا وناصحا وشفيقا ورفيقا وصالحا
مؤثرا الله على نفسه والفقراء من تعلق به
يعامل الضعيف قدر وسعه متواضعا يحسن الإقتداء به
سيمته تفيدك إذا تراه تذكر الإله والغير تنساه
منطقة يزيد في علومك علمه في الآخرة يرغبك
وهذه صفاتهم على التهذيب ولهم في البواطن أمر غريب
يعني أن الشيخ له شروط كمال غير شروط الصحة المتقدمة, أولها أن يكون راسخا في المعرفة بحيث يكون مستعدا لجميع علوم الشريعة من فقه وحديث وتوجيه وغير ذلك, قال الجنيد: لا يستحق أن يكون شيخا حتى يأخذ حظا من كل علم شرعي ويتورع عن المحرمات وأن يزهد في الدنيا وأن لا يسرع في مداواة غيره إلا بعد الفراغ من المداواة نفسه, ثم قال: إياك ومتابعة من لم يكن على هذه الصفات فإنه من جنود الشيطان واعتبر أقواله وأفعاله وأحواله وزنها بميزان الشريعة والحقيقة فإن رأيت شيئا مخالفا لها فرده فإن كان صاحب حال صحيح ورددته فما كان عليك برده بحكم الشرع من حرج ولا تتخذه مرشدا ومن شروط الكمال أن يكون الشيخ ورعا عن المحرمات زاهدا في الدنيا وجميع المألوفات والفانيات كما تقدم في كلام الجنيد وأن يكون ناصحا لجميع الأمة عموما ولفقرائه خصوصا لأن الدين النصيحة, وأن يكون شفيقا أي ذا رأفة قلبية وحنانة باطنية ورفيقا أي مترفقا بخلق الله وصالحا في جميع أحواله من قول وفعل وأن يكون مؤثرا أي مقدما لله: أي أن تكون محبته لله أقوى من محبته لنفسه بائعا نفسه وماله في سبيل الله تعالى ومؤثرا الفقراء ومن تعلق به على نفسه أيضا لقوله تعالى: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر : 9] فيعامل الضعيف منهم بقدر ما يتيسر له من ماله الخاص به ولذلك قيل إن إبراهيم بن الأدهم كان يحصد بالكراء وينفق على أصحابه
وأن يكون متواضعا لهم, قال الله تعالى لنبيه: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين [الشعراء : 215]
ثم أخبر الشيخ في البيت الخامس أن الشيخ إذا رأيته تفيدك سيمته ويلوح لك نعته فتعرفه وينقاد إليه باطنك كما قال الله تعالى في حق المؤمنين: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود [الفتح : 29] وهذه قاعدة كلية وعلامة إلهية خص الله بها الخاصة من أمته
ثم ذكر ثلاث علامات أخرى يعرف بها الشيخ وهي أنه عند رؤيته تذكر الله تعالى وتنسى غيره من سائر الكائنات لقوله صلى الله عليه وسلم: أفضلكم من إذا رئي ذكر الله لرؤيته وأنه يزيدك منطقة أي كلامه في علومك وأن عمله يرغبك في الآخرة ويزهدك في هذه الدنيا الخاسرة, وقد قيل: من نجالس بعدك يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: من يزيدكم في علومكم منطقة ويرغبكم في الآخرة عمله وتذكركم بالله رؤيته.
وأخبر الشيخ في البيت الأخير أن ما ذكره من الأوصاف هو وصف المشايخ أهل التربية على التقريب وإلا فأوصافهم أجل وأفعالهم أفضل وذكر منها الشيخ هذه الأوصاف تقريبا للعقول وتسهيلا للقبول وإلا فالأمر يطول لأن ما ذكر من جملة أوصافهم الظاهرة, وأما بواطنهم فلها أحوال باهرة وصولات قاهرة يتصرفون في المريد فيرفعونه من ضيق الأكوان إلى حضرة الرحمان فإن شئت قلت من عالم الخيال إلى عالم النوال أو من عالم الحس إلى حضرة القدس أولئك حزب الله فيا سعادة من اختاره الله لصحبتهم واجتباه.
شرح منهاج التصوف
من الرسالة العلوية للشيخ محمد المدني