آخر الأخبار

جاري التحميل ...

التصوف

قال الإمام العارف الكبير الفقيه المالكي سيدي زروق - رحمه الله :
الكلام في الشيء فرع تصور ماهيته وفائدته بشعور ذهني مكتسب أو بديهي، ليرجع إليه في أفراد ما وقع عليه ردا وقبولاً وتأصيلاً وتفصيلاً.
فلزم تقديم ذلك علي الخوض فيه، إعلاماً به وتحضيضاً عليه، وإيماء لمادته، فافهم.
وماهية الشيء حقيقته، وحقيقته ما دلت عليه جملته، وتعريف ذلك بحد وهو أجمع، أو رسم وهو أوضح، أو تفسير وهو أتم لبيانه وسرعة فهمه.
وقد حد التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، مرجع كلها لصدق التوجه إلي الله تعالي، وإنما هي وجوه فيه ، والله أعلم.

الاختلاف في الحقيقة الواحدة إن كثر دل علي بعد إدراك جملتها، ثم هو إن رجع لأصل واحد يتضمن جملة ماقيل فيه كانت العبارة عنه بحسب ما فهم منه، وجملة الأقوال واقعة علي تفاصيله، واعتبار كل واحد علي حسب مثاله منه علما أو عملا أو حالا أو ذوقا أو غير ذلك.
والاختلاف في التصوف من ذلك، فمن ثم ألحق الحافظ أبو نعيم رحمه الله ـ بغالب أهل حليته عند تحليته كل شخص ـ قولا من أقواله يناسب حاله، قائلاً: وقيل: إن التصوف كذا.
فأشعر أن من له نصيب من صدق التوجه، له نصيب من التصوف، وأن تصوف كل أحد صدق توجهه، فافهم.

و صدق التوجه مشروط بكونه من حيث يرضاه الحق تعالي وبما يرضاه، ولا يصح مشروط بدون شرطه ( ولا يرضي لعباده الكفر ) فلزم تحقيق الإيمان ( وإن تشكروا يرضه لكم ) فلزم العمل بالإسلام.
فلا تصوف إلا بفقه، إذ لا تعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه.
ولا فقه إلا بتصوف، إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه.
ولا هما إلا بإيمان، إذ لا يصح واحد منهما دونه، فلزم الجميع لتلازمها في الحكم، كتلازم الأرواح للأجساد، ولا وجود لها إلا فيها، كما لا حياة لها إلا بها، فافهم.
ومنه قول مالك رحمه الله (( من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق )).
قلت: تزندق الأول لأنه قال بالجبر الموجب لنفي الحكمة والأحكام.

وتفسق الثاني، لخلو عمله من التوجه الحاجب منهما عن معصية الله، ومن الإخلاص المشترط في العمل لله.
وتحقق الثالث، لقيامه بالحقيقة في عين التمسك بالحق، فاعرف ذلك.
إسناد الشيء لأصله والقيام فيه بدليله الخاص به يدفع قول المنكر لحقيقته، وأصل التصوف مقام الإحسان الذي فسره رسول الله صلي الله عليه وسلم (( بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )),
لأن معاني صدق التوجه لهذا الأصل راجعة ، وعليه دائرة، إذ لفظه دال علي طلب المراقبة الملزومة به، فكان الحض عليها حض على عينه، كما دار الفقه علي مقام الإسلام، والأصول - أي أصول الدين - علي مقام الإيمان.
فالتصوف أحد أجزاء الدين الذي علمه عليه السلام جبريل، ليتعلمه الصحابة رضي الله عنهم.

الاصطلاح للشيء ما يدل علي معناه ويشعر بحقيقته ويناسب موضوعه ويعين مدلوله من غير لبس ولا إخلال بقاعدة شرعية ولا عرفية، ولا رفع موضوع أصلي ولا عرفي، ولا معارضة فرع حكمي ولا مناقضة وجه حكمي، مع إعراب لفظه وتحقيق ضبطه لا وجه لإنكاره.
واسم التصوف من ذلك، لأنه عربي مفهوم تام التركيب، غير موهم ولا ملتبس ولا مبهم.
بل اشتقاقه مشعر بمعناه كالفقه لأحكام الإسلام، والأعمال الظاهرة والأصول لأحكام الإيمان وتحقيق المعتقد.
فاللازم فيهما لازم فيه لاستوائهما في الأصل والنقل.

الاشتقاق قاض بملاحظة معني المشتق والمشتق منه، فمدلول المشتق مستشعر من لفظه، فإن تعدد تعدد الشعور، ثم إن أمكن الجمع فمن الجميع، إلا فكل يلاحظ معني فافهم، إن سلم عن معارض في الأصل.
وقد كثرت الأقوال في اشتقاق التصوف، وأمسى ذلك بالحقيقة خمسة:
الأول: قول من قال: من (( الصوفة )) لأنه مع الله كالصوفة المطروحة لا تدبير له.
الثاني: أنه من (( صوفة القفا )) للينها والصوفي هين لين كهي.
الثالث: أنه من (( الصفة )) إذ جملته إتصاف بالمحاسن وترك الأوصاف المذمومة.
الرابع: أنه من الصفاء وصحح هذا القول حتي قال أبو الفتح البستي رحمه الله:
تنازع الناس في الصوف واختلفوا *** وظنه البعض مشتقا من الصوف
ولست أمنح هذا الاسم غير فتي *** صافي فصوفي حتي سمي الصوفي
الخامس: أنه منقول من (( الصفة )) لأن صاحبه تابع لأهلها فيما أثبت الله لهم من الوصف حيث قال تعالي: (( يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه )) وهذا هو الأصل الذي يرجع إليه كل قول فيه والله أعلم.

حكم التابع كحكم المتبوع فيما تبعه فيه وإن كان المتبوع أفضل.
وقد كان أهل الصفة فقراء في أول أمرهم، حتي كانوا يعرفون بأضياف الله.
ثم كان منهم الغني والأمير، والمتسبب والفقير، لكنهم شكروا عليها حين وجدت، كما صبروا عليها حين فقدت.
فلم يخرجهم الوجدان عما وصفهم به مولاهم من أنهم (( يدعونه بالغداة والعشي يريدون وجهه )).
كما أنهم لم يمدحوا بالفقدان، بل بإرادة وجه الملك الديان،
وذلك غير مقيد بفقر ولا غني وبحسبه، فلا يختص التصوف بفقر ولاغني إذا كان صاحبه يريد وجه الله، فافهم.

اختلاف النسب قد يكون لاختلاف الحقائق، وقد يكون لاختلاف المراتب في الحقيقة الواحدة.
فقيل: إن التصوف والفقر والملامة والتقريب من الأول، وقيل من الثاني وهو الصحيح.
على أن الصوفي هو العامل في تصفية وقته عما سوي الحق، فإذا أسقط ما سوي الحق من يده فهو الفقير، والملامتي منهما هو الذي لا يظهر خيرا ولا يضمر شراً، كأصحاب الحرف والأسباب ونحوهم من أهل الطريق، والمقرب من كملت أحواله فكان بربه لربه ليس له عن سوى الحق إخبار، ولا مع غير الله قرار، فافهم.

لا يلزم من اختلاف المسالك اختلاف المقصد، بل قد يكون متحدا مع اختلاف مسالكه، كالعبادة والزهادة والمعرفة مسالك، لقرب الحق علي سبيل الكرامة وكلها متداخلة، فلا بد للعارف من عبادة وإلا فلا عبرة بمعرفته إذ لم يعبد معروفه.
ولا بد له من زهادة، وإلا فلا حقيقة عنده إذا لم يعرض عمن سواه، ولا بد للعابد منهما، إذ لا عبادة إلا بمعرفة، ولا فراغ للعبادة إلا بزهد، والزهد كذلك إذ لا زهد إلا بمعرفة ولا زهد إلا بعبادة، وإلا عاد بطالة.
نعم من غلب عليه العمل فعابد، أو الترك فزاهد، أو النظر لتصريف الحق فعارف، والكل صوفية، والله أعلم.
ولكل شيء أهل ومحل وحقيقة.
وأهلية التصوف لدي توجه صادق أو عارف محقق أو محب مصدق أو طالب منصف أو عالم تقيده الحقائق أو فقيه تقيده الاتساعات.
لا متحامل بالجهل، أو مستظهر بالدعوى ، أو مجازف في النظر، أو عامي غبي، أو طالب معرض، أو مصمم على تقليد أكابر من عرف في الجملة، والله أعلم.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية