تتّسمُ التجربة الصوفية بأذواق ورقائق قلبية رفيعة، ومعان ومقامات إيمانية سامية قَلَّما تجِدُها عِند غيرهم؛ وقد تَحدَّثت النصوص القرآنية والحديثية في ديننا الحنيف عن عِدة أذواق قلبية، وأصول إيمانية، ومعان روحية كِدنا أو نكاد نفقدها اليوم؛ بل أصبحت هذه الأذواق والرقائق على حد قول الشاطبي في الموافقات كالنسي المنسي وصار طالب العمل بها كالغريب المقصى. وإنَّ مِن هذه التجليات والأذواق الإيمانية: خُشوع القلب، قشعريرة الجلد، بكاء العين، تصدُّعُ الجوارح، خرور وصعق، إلى غير ذلك من الأحوال مما ثبت في النصوص الشرعية...، وكل ذلك يَحصُل نتيجة انفعال باطني ناشئ عن حزن أو عن خوف أو عن شوق.
فمِنْ تجليات الإيمان: "التمايل والاضطراب": ويُطلق عليه اصطلاحاً "الرقص الصوفي" وذلك اقتباساً مِنْ حديث البخاري ومسلم وحديث الإمام أحمد عن رقص الحبشة في المسجد النبوي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهُم يقولون بكلامٍ لهم: "محمدٌ عبدٌ صالح".[1] وفي الحديث دليل قوي على إباحة الرقص في المسجد وأثناء مدحه صلى الله عليه وسلم، وفيه كذلك دليل على صِحّة الجمع بين الاهتزاز المباح ومدحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّ الاهتزاز بالذكر جائز، ولا يُسمى رقصاً محرماً.
والاهتزاز عند الصوفية تعبيرٌ نبيلٌ عن شعورٍ أصيل، وهو نتيجةُ انفعالٍ باطني ناشئ عن قوَّةِ الوارد، فتهتز الأجسام لتؤدّي ما لا يؤدّيه البكاء والصعق، ولتُخفِّف مِن قوَّةِ التأثّر الباطني العنيف.
وهذه الأحوال التي يقترن بها البكاء والوجل والقشعريرة والصعق والغشي ونحو ذلك، إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان فعله محمودا؛ قال حجة الإسلام: "وذلك يكون لفرحٍ أو شوق فحُكْمُهُ حُكم مُهيِّجه، إن كان فرحه محموداً والرقص يزيده ويؤكده فهو محمود، وإن كان مباحاً فهو مباح، وإن كان مذموما فهو مذموم".[2]
والاهتزاز والتمايل أثناء الذكر أمرٌ فطري، وِجداني وتلقائي يلاحظه كثير من الناس أثناء تلاوة القرآن عندما يعيش المرء مع معاني آيِ الذكر الحكيم، فيجد نفسه يتمايل بدون شعور... ويزدادُ الاهتزاز والتمايل قوَّةً بحسب قوَّةِ الشعور والذوق، وقوَّةِ التجلٍّي والوارد...
قال عليٌّ كرَّم الله وجهه وهو يصِفُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت أثرا من أصحاب رسول الله فما أرى أحداً يُشبههم، والله إن كانوا ليُصْبِحون شعثا غبراً صُفراً، بين أعينهم مثل ركب المعزي، قد باتوا يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم، إذا ذكر الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم ريح، فانهملت أعينهم حتى تبل والله ثيابهم".[3]
وعن عليٍّ كذلك قال: "أتينا النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجعفر وزيد، فقال لزيد: أنت أخونا ومولانا، فَحَجَل. وقال لجعفر: أشبهت خلقي وخٌلقي، فحجل وراء حجل زيد، وقال لي: أنت مني وأنا منك فحجلت وراء حجل جعفر".[4]
قال البيهقي (ت458ھ) -شارحاً الحديث-: "والحجل: أن يرفع رِجْلا ويقفز على الأخرى من الفرح، فإذا فعله الإنسان فرحا بما آتاه الله تعالى من معرفته أو سائر نعمه فلا بأس وما كان فيه تثن وتكسّر حتى يباين أخلاق الذكور فهو مكروه لما فيه من التشبه بالنساء".[5]
وقال ابن حجر العسقلاني (773-852ھ) عند شرح الحديث: "وحجل بفتح المهملة وكسر الجيم أي وقف على رجل واحدة، وهو الرقص بهيئة مخصوصة".[6]
وفي "الفتاوى الحديثية" قال الامام الحافظ ابن حجر الهيتمي بعد أن سُئِل عن رقص الصوفية: "نعم له أصل، فقد رُوي في الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه رقص بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لمّا قال له: (أشبهت خَلقي وخُلقي) وذلك من لَذَّة الخطاب ولم يُنكر عليه صلى الله عليه وسلم".[7]
وكذلك استدل للحَجَل والرقص بهذا الحديث كلٌّ من حُجَّة الإسلام أبو حامد الغزالي في كتابه "الإحياء"،[8] وذكره محمد بن طاهر المقدسي في "صفوة التصوف".[9]
وكان سلطان العلماء العز بن عبد السلام وهو الذي "برع في الفقه والأصول والعربية، ودرَّس وأفتى وصنَّف وبلَغ رتبة الاجتهاد وانتهت إليه رئاسة المذهب مع الزهد والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلابة في الدين... كان مع شدته فيه حسن محاضرة بالنوادر والأشعار، يحضر السماع ويرقص"؛[10] وقد جعل الإمام اليافعي "رقص وسماع سلطان العلماء العز بن عبد السلام دليلا على جواز ذلك؛ لأن فعله حجة فهو من كبار العلماء".[11] وقال الإمام السيوطي: "وقد صح القيام والرقص في مجالس الذكر والسماع عن جماعة من كبار الأئمة منهم شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام".[12]
وقال ابن قيم الجوزية في "مدارج السالكين": "اختلف الناس في التواجد :هل يسلم لصاحبه؟ على قولين. فقالت طائفة: لا يسلم لصاحبه، لما فيه من التكلف وإظهار ما ليس عنده، وقوم قالوا: يُسلَّم للصادق الذي يرصد لوجدان المعاني الصحيحة. كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا). والتحقيق: أن صاحب التواجد إنْ تَكَلّفَهُ لِحَظٍّ وشهوة ونفس: لم يُسَلّم له. وإن تكلفه لاستجلاب حال، أو مقام مع الله: سُلِّمَ له. وهذا يُعرف من حال المتواجد، وشواهد صدقه وإخلاصه".[13]
وهذا الإمام مالك كان "إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه".[14]
وفي تفسير القرطبي: "قال هشام بن حسان انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن، وعنده يقرأ: والطور حتى بلغ (إِنّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِع)، فبكى الحسن وبكى أصحابه، فجعل مالك يضطرب حتى غُشي عليه".[15]
وثبت التمايل في الصحيح لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن عبد الله بن عمر قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: يأخذ الجبار سماواته وأرضيه بيده، وقبض يده فجعل يقبضها ويبسطها، ثم يقول: أنا الجبار، أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ قال: ويتمايل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه وعن شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم"،[16] وفي رواية أحمد: "...حتى رجف به المنبر حتى ضننا أنه سَيَخِرُّ به".[17]
بل وثبت كذلك في الصحيح اهتزاز العرش في عليائه فرحا بقدوم الروح الطاهرة لسعد بن معاذ وذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اهتز العرش لموت سعد بن معاذ".[18]
وانظر إلى هذا النص الوجداني الكريم الذي يقول فيه الحق تعالى: (لَو أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)،[19] فضَرْبُ المثل من الأساليب القرآنية المعهودة التي تعمل على تقريب المعنى، وكأنَّ المعنى هنا هو إذَا كان الجبل على صلابته وتناهي قساوته وقُوَّتِه لو أُنزِل عليه القرآن لتأثر منه بالخشوع والتصدع، فكيف يكون الحال بالنسبة للقلوب!، والله تعالى ضرب للناس المثل بالجبال الرواسي ليعلموا أنهم أولى بذلك الخشوع والتصدع؛ فهذا النص الإلهي بلغ من التأثير ما لا إمكان للزيادة وراءه.
فهلاَّ رأيتم رجُلاً تصدَّعَتْ جوانِحُه مِن خشية الله؟...
نَعم، عندنا قرآنٌ يتلى، فيه: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا)،[20] قال صاحب التحرير والتنوير: "صعِق موسى مِن اندكاك الجبل فعَلِم موسى أنه لو توجه ذلك التجلي إليه لانتثر جِسمه فُضاضاً".[21]
وعند ابن كثير أنَّ "عُمر قرأ: (إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِع مَا لَهُ مِنْ دَافِع) فَرَبا لها ربوةً عِيدَ مِنها عشرين يوما".[22]
وقال ابن تيمية: "لَمَّا سُئِل الإمام أحمد عن هذا. فقال: قُرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغُشي عليه، ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد، فما رأيت أعقل منه، ونحو هذا. وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك، وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة، وبالجملة فهذا كثيرٌ ممن لا يستراب في صدقه".[23]
وقد ثبت في عدة نصوص تأثُّر المخلوقات الجمادية بالذكر بُكَاءً وخشوعا وتصدُّعا، كما ثبت لها كذلك الاهتزاز والتمايل؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "صعد النبي صلى الله عليه وسلم أُحُدا (أي جبل أُحد)، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله وقال: أُثبت أحُد، فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيدان"؛[24] وما اضطراب الجبل إلا طرباً وفرحا بوقوف ولمس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا ثبت البكاء والخشوع والتصدع والاهتزاز للجمادات الصماء فكيف الحال مع المؤمن الصادق! والله تعالى أكرم الإنسان بخصوصية لم ترق إليها المخلوقات الأخرى حيث نفخ فيه من روحه وجعله حاملا للأمانة التي أشفقت السماوات والأرض من حملها، فصار بذلك مؤهلا أكثر من غيره لاستشفاف أسرار الله وأنواره؛ لكن الإنسان أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فانطَبَع ذلك على قلبه حُجُباً وأقفالاً منَعَته مِن إدراك وتذوُّق تلك المعاني الإيمانية السامية والخالدة.
فلذّة القرب، وتذوّق حرارة الإيمان، ونسيم الاتصال بالله كأنك تراه، هي أسمى ما يتحلى به الإنسان في هذا الوجود؛ قال ابن القيم في المدارج: "لو فَرَضْت لذات أهل الدنيا بأجمعها حاصلة لرجل، لَمْ يكن لها نسبة إلى لذة جمعية قلبه على الله، وفرحه به، وأنسه بقربه، وشوقه إلى لقائه. وهذا أمر لا يُصدِّقُ به إلا من ذاقه، فإنما يُصدِّقُك من أشرق فيه ما أشْرَقَ فيك. ولله در القائل:
أيا صاحبي، ما ترى نارهــم؟
فقال: تريـني مــا لا أرى
سقاك الغرام، ولم يَـسْـقِـني
فأبصرتَ ما لم أكن مبصرا".[25]
ثُمّ قال: "وما أظنك تُصدِّق بهذا، وأنه يصير له وجود آخر. وتقول: هذا خيالٌ ووهم، فلا تعجل بإنكار ما لم تُحِط بعلمه، فضلاً عن ذوق حاله، وأعط القوس باريها. وخل المطايا وحاديها".
الهوامش:
[1]- صحيح البخاري (2/469)، وصحيح مسلم بشرح النووي (3/451)، ومسند أحمد (5/427).
[2]- إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، دار الحديث، القاهرة، 2004م، 2/384.
[3]- حلية الأولياء لأبي نعيم، دار الكتب العلمية، لبنان، ط3، 2007م، 1/118، رواه كذلك: ابن كثير في "البداية والنهاية"، والحافظ ابن عساكر في "تاريخه"، والخطيب البغدادي في "الموضح".
[4]- فتح الباري لابن حجر العسقلاني، دار الحديث، القاهرة، طبعة 2004م، 7/583.
[5]- الآداب للبيهقي، ص422، (رقم 626).
[6]- فتح الباري، 7/583.
[7]- الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي، دار الفكر، 1/212.[8]- إحياء علوم الدين، 2/383.
[9]- صفوة التصوف لمحمد بن طاهر المقدسي، دار المنتخب العربي، ص: 415.
[10]- العبر في خبر من غبر للذهبي، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1985م، 3/299.
[11]- مرآة الجنان لليافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988م، 4/118.
[12]- الحاوي للفتاوى للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2000م، 2/222-223.
[13]- مدارج السالكين لابن قيم الجوزية، دار الحديث، القاهرة، 2005م، 3/324.
[14]- الشفا للقاضي عـياض، باب تعظيمه (صلى الله عليه وسلم) بعد موته، ، دار الحديث، القاهرة، طبعة 2004م، تحقيق: عامر الجزار، 1/289.
[15]- تفسير القرطبي، دار عالم الكتب، السعودية، ط2، 2003م، 17/62.
[16]- صحيح مسلم بشرح النووي، في صفة القيامة والجنة والنار، 9/144.
[17]- المسند، أحمد بن حنبل، دار الكتب العلمية، ط1، 2008م، 3/251.
[18]- رواه البخارى في المناقب، باب مناقب سعد، 3/63، ورواه مسلم.
[19]- سورة الحشر. الآية: 21.
[20]- سورة الأعراف. الآية: 143.
[21]- تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، 9/93.
[22]- تفسير ابن كثير، دار الفكر، 1989م، 7/372.
[23] - مجموعة الفتاوى لابن تيمية، دار الحديث، القاهرة، طبعة 2006م، 11/7.
[24]- صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب، دار الحديث القاهرة، طبعة 2004م، 3/13.
[25]- مدارج السالكين، 3/131.
[26]- المصدر السابق، 3/259.