الفناء : هو أن يفنى عنه الحظوظ، فلا يكون لـه في شيء من ذلك حظ، ويسقط عنـه التمييز؛ فناءًعن الأشياء كلها شغلا بما فنى بـه، كما قال عامر بن عبد الله:" ما أبالي امرأة رأيت أم حائطا "، والحق يتولى تصريفه، فيصرفه في وظائفـه وموافقاته، فيكون محفوظا فيمـا لله عليه، مأخوذا عمـا له وعن جميع المخالفات، فلا يكون لـه إليها سبيل ( وهو: العصمة )، وذلك معنى قوله تعالى: { كنت له سمعا وبصرا }
والبقاء الذي يعقبه: هو أن يفنى عما له ويبقى بما لله.
قال بعض الكبار:" البقاء مقام النبيين، ألبسوا السكينة، لا يمنعهم ما حل بهم عن فرضه، ولا عن فضله؛ { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } ".
والباقي: هو أن تصير الأشياء كلها له شيئا واحدا، فتكون كل حركاته في موافقات الحق دون مخالفاته، فيكون: فانيا عن المخالفات، باقيا في الموافقات.
وليس معنى " أن تصير الأشياء كلها له شيئا واحدا ": أن تصير المخالفات له موافقات، فيكون ما نهى عنه كما أمر به! ولكن على معنى: أن لا يجري عليه إلا ما أمر به، وما يرضاه الله تعالى دون ما يكرهه،ويفعل ما يفعل لله لا لحظ له فيه في عاجل أو آجل، وهذا معنى قولهم:" يكون فانيا عن أوصافه باقيا بأوصاف الحق "؛ لأن الله تعالى إنمـا يفعل الأشـياء لغيره لا له، لأنه لا يَجُرُّ به نفعا ولا يدفع به ضرا_ تعالى الله عن ذلك _، وإنما يفعل الأشياء لينفع الأغيار أو يضرهم.
فالباقي بالحق: الفاني عن نفسه: يفعل الأشياء لا لِجَـرِّ منفعة إلى نفسه، ولا لدفع مضرة عنها، بل على معنى: أنـه لا يقصد في فعله جَـرّ المنفعة ودفع المضرة؛ قـد سقطت عنه حظوظ نفسه ومطالبة منافعها ( بمعنى: القصد والنية )، ولا بمعنى أنـه لا يجد حظـاً فيما يعمل مما لله عليه، يفعله لله، لالِطَمَـع ثواب، ولا لخوف عقاب، وهمـا _ أعني: الخوف والطمع _ باقيان معـه، قائمان فيه، غيرأنـه يرغب في ثواب الله لموافقة الله تعـالى؛ لأنـه رغَّب فيـه، وأمر أن يسأل ذلك منـه، ولا يفعله للذة نفسـه، ويخاف عقابه إجلالا له، وموافقة له؛ لأنه خَوَّفَ عباده، ويفعل سـائر الحركات لحظ الغير لالحظ نفسه، كما قيل:" المؤمن يأكل بشهوة عياله ".
فجملة الفناء والبقاء: أن يفنى عن حظوظه، ويبقى بحظوظ غيره.
فمن الفناء: فناء عن شهود المخالفات والحركات بها قصدا وعزما، وبقاء في شهود الموافقات والحركات بها قصدا وفعلا، وفناء عن تعظيم ما سوى الله، وبقاء في تعظيم الله تعالى.
ومن فناء تعظيم ما سوى الله: حديث أبي حازم حيث قال:" ما الدنيا؟! أمَّا ما مضى: فأحلام، وأما ما بقي: فأمان وغرور. وما الشيطان حتى يهاب منه؟! لقد اطِيْع فما نفع، وعُصِي فمـا ضر "، فكان كأنه لا دنيا عنده ولا شيطان.
ومن فناء الحظوظ: حديث عبد الله بن مسعود حيث قال:" ما علمت أن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلممن يريد الدنيـا حتى قال الله: { منكم من يريد الدنيـا ومنكم من يريد الآخرة } الآية "! فكان فانيـاً عن إرادة الدنيـا.
ومن ذلك حديث حارثة: قال:" عزفت نفسي عن الدنيا، فكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا "؛ فنى عن العاجلة بالآجلة، وعن الأغيار بالجبار.
وحديث عبد الله بن عمر _ سـلّم عليه إنسـانٌ وهو في الطواف فلـم يرد عليه، وشكاه إلى بعض أصحابه _، فقال عبد الله:" إنا كنا نتراءى الله في ذلك المكان ".
والفناء: هو الغيبة عن الأشياء رأسا، كما كان فناء موسى عليه السلام حين تجلى ربه للجبل { فخر موسى صعقا }، فلم يخبر في الثاني من حاله عن حاله، ولا أخبر عنه مغيبه به عنها.
وقال أبو سعيد الخزاز:" علامة الفاني: ذهاب حظه من الدنيا والآخرة إلا من الله تعالى، ثم يبدو باد من قدرة الله تعالى فيريه ذهاب حظه من الله تعالى إجلالا لله، ثم يبدو له باد من الله تعالى فيريه ذهاب حظه من رؤية ذهاب حظه ويبقى رؤية ما كان من الله لله، ويتفرد الواحد الصمد في أحديته فلا يكون لغير الله مع الله فناء ولا بقاء ".
معنى " ذهاب حظه من الدنيـا ": مطالبة الأعراض، و " من الآخرة ": مطالبة الأعواض، فيبقى حظه " من الله " وهو: رضاه عنه، وقربه منه، ثم يرد عليه حالة من إجلال الله تعالى ( أن يقرب مثله، أو يرضى عن مثله )؛ استحقارا لنفسه وإجلالا لربه، ثم ترد عليه حالة فيستوفيه حق الله تعالى، فيغيبه عن رؤية صفته ( التي هي رؤية ذهاب حظه )، فلا يبقى فيه إلا ما من الله إليه، ويفنى عنه ما منه إلى الله،فيكون كما كان _ إذ كان في علم الله تعالى قبل أن يوجده _، وسبق له منه ما سبق من غير فعل كان منه.
وعبارة أخرى عن الفناء: أن الفَنـاء: هو الغيبة عن صفات البشرية بالحمـل المولَّه من نعوت الإلهية ( وهو: أن يفنى عنه أوصاف البشرية التي هي الجهل والظلم؛ لقوله تعالى: { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا }، ومن أوصافه: الكنود، والكفور، وكل صفة ذميمة تفنى عنه )، بمعنى: أن يغلب علمه جهله، وعدله ظلمه، وشكره كفرانه، وأمثالها.
وقال:" فناء البشرية ليس على معنى عدمها، بل على معنى: أن تغمد بلذة تُوفِي على رؤية الألم،واللذة الجارية على العبد في الحال كصواحبات يوسف عليه السلام : { قطعن أيديهن }؛ لفناء أوصافهم، ولِمَا ورد على أسرارهن من لذة النظر إلى يوسف مما غيبهم عن ألم ما دخل عليهن من قطع أيديهن ".
ومنهم من جعل هذه الأحوال كلهـا حالا واحدة، وإن اختلفت عباراتها: فجعل الفنـاء بقاء، والجمع تفرقة، وكذلك الغيبة والشهود والسكر والصحو؛ وذلك: أن الفاني عما لـه باق بما للحق، والباقي بما للحقفانٍ عما لـه، والمفارق مجموع؛ لأنّـه لا يشهد إلا الحـقّ، والمجموع مفارق؛ لأنّـه لا يشهد إياه ولا الخلق، وهو باق لدوامه مـع الحق، وهو جامعه به، وهو فان عمـا سواه مفارق لهم، وهو غائب سكران؛لزوال التمييز عنه.
ومعنى " زوال التمييز عنه ": هو ما قلناه بين الآلام والملاذ، وبمعنى: أن الأشياء تتوحد له فلا يشهد مخالفة؛ إذ لا يصرفه الحق إلا في موافقاته، وإنما تميز: بين الشيء وغيره، فإذا صارت الأشياء شيئا واحدا سقط التمييز.
وعبر جماعة عن الفناء بأن قالوا:" يؤخذ العبد من كل رسم كان له، وعن كل مرسوم، فيبقى في وقته بلا بقاء يعلمه، ولا فناء يشعر به، ولا وقت يقف عليه، بل يكون خالقه عالما ببقائه وفنائه ووقته، وهو حافظ له عن كل مذموم ".
فالفناء: فضل من الله ، وموهبة للعبد، وإكرام منه له، واختصاص له به. وليس هو من الأفعال المكتسبة، وإنما هو شيء يفعله الله بمن اختصه لنفسه واصطنعه له، فلو رده إلى صفته: كان في ذلك سلب ما أعطى، واسترجاع ما وهب! وهذا غير لائق بالله . أو: يكون من جهة البداء، والبداء صفة من استفاد العلم، وهذا من الله منفي. أو: يكون ذلك غرورا وخداعا، والله تعالى لا يوصف بالغرور،ولا يخادع المؤمنين، وإنما يخادع المنافقين والكافرين.
قال الجنيد:" إن إبليس لم ينل مشاهدته في طاعته، وآدم لم يفقد مشاهدته في معصيته ".
وقال أبو سليمان:" والله ما رجع من رجع إلا من الطريق، ولو وصلوا إليه ما رجعوا عنه ".
والفـاني يكون محفوظا في وظائف الحق، كمـا قال الجنيد _ وقيل له: إن أبا الحسين النوري قائم في مسجد الشونيزي منـذ أيام لا يأكل ولا يشرب ولا ينـام، وهو يقول: الله، الله، ويصلي الصلوات لأوقاتها؟ فقال بعض من حضره: إنـه صاح، فقال الجنيد :" لا، ولكن أرباب المواجيد محفوظون بين يدي الله في مواجيدهم "، فإن رد الفاني إلى الأوصاف لم يرد إلى أوصاف نفسه، ولكن يقام مقام البقاء بأوصاف الحق.
وليس الفاني بالصعق ولا المعتوه ولا الزائل عنه أوصاف البشرية فيصير ملكا أو روحانيا، ولكنه ممن فنى عن شهود حظوظه.
ومن يتتبع كتب القوم وفهم إشاراتهم، علم أن قولهم: ما حكيناه عنهم؛ فإن هذه المسألة وأمثالها ليست بمنصوصات لهم ولا مفردات، بل يعرف ذلك من قولهم بفهم رموزهم ودرك إشاراتهم، والله أعلم
التعرف لمذهب اهل التصوف