{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ مُسْكرٍ خَمْرٍ وكُلُّ خَمْر، حَرَامٌ ". والميسر: قال ابن عباس والحسن: كل قمار ميسر، من شطرنج ونرْد ونحوه، حتى لَعِب الصبيان بالجَوْز والكِعَاب، إذا كان بالفُلوس، وسمي ميسراً ليُسْر صاحبه بالمال الذي يأخذه، وأما إذا كان بغير عِوض، إنما هو لَعِبٍّ فقط، فلا بأس. قاله ابن عرفة. يقول الحقّ جلّ جلاله: { يسألونك عن } حكم { الخمر والميسر قل } لهم: { فيهما إثم كبير } أي: عظيم لما في المسير من أكل أموال الناس بالباطل، وما ينشأ عنه من العداوة والشحناء، وما في الخمر من إذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية، والتعدّي الذي يكون من شاربه. وقرأ حمزة والكسائي: { كثير } بالمثلثة، أي: آثام كثيرة لقوله عليه الصلاة والسلام: " لَعَنَ اللّهُ الخَمْرَ، وَبَائِعِهَا، وَمُبْتَاعَهَا، والمُشتَرَاة لَهُ، وعَاصَرَهَا، والمَعْصُورَةَ لَه، وسَاقِيها، وشَاربهَا، وحَامِلهَا، والْمْحمُولة لَهُ، وآكل ثَمِنِها ".
الإشارة
يقول سيد ابن عجيبة رضي الله عنه : اعلم أن الحق تعالى جعل للعقل نوراً يُميز بين الحق والباطل، بين الضار والنافع، وبين الصانع والمصنوع، ثم إن هذا النور قد يتغطى بالظلمة الطينية وهي نشوة الخمر الحسية. وقد يتغطى أيضاً بالأنوار الباهرة من الحضرة الأزلية إذا فاجأته، فيغيب عن الإحساس في مشاهدة الأنوار المعنوية، وهي أسرار الذات الأزلية، فلا يرى إلا أسرار المعاني القديمة، وينكر الحوادث الحسية، فسمي الصوفية هذه الغيبة خمرة لمشاركتها للخمر في غيبوبة العقل، وتغنوا بها في أشعارهم ومواجيدهم، قال الفارض رضي الله عنه:
شَرِبْنَا على ذِكْر الحبيبِ مُدامَةً سَكرنَا بها من قبل أن يُخلَقَ الكَرْمُ
ثم قال:
على نفسه فَليبْكِ مَن ضاع عُمْرُه وليسَ لهُ منها نَصِيبٌ ولا سَهْمُ
وقلت في عينيتي:
وَلِي لَوْعَةٌ بالرَّاحِ إِذْ فِيه رَاحِتِي وَرَوْحِي ورَيْحَانِي، وخيرٌ واسِعُ سَكرْنَا فهِمْنَا في بَهاءِ جَمَالِه فَغِبْنا عَن الإحساسِ، والنُورُ ساطعُ.
والميسر في طريق الإشارة: هو الغني الذي يحصل بهذه الخمرة، وهو الغني بالله عن كل ما سواه قل فيهما إثم كبير أي: في تعاطيهما حرج كبير، ومنافع للناس بعد تعاطيهما، فيهما إثم كبير عند طالب الأجور، ومنافع للناس لمن طلب الحضور ورفع الستور. وأنشدوا:
لَوْ كَان لي مُسْعدٌ يُسعِدُني لمَا انتظرتُ لشُربِ الراحِ إفطارا فالراحُ شيءٌ شَريفٌ أنتَ شَاربُه، فاشْرَب، ولو حَمَّلَتْكَ الراحُ أوْزارا يا مَنْ يلومُ على صَهْبَاءَ صافيةٍ خُذ الجِنَانَ، ودَعْنِي أَسكنُ النَارا
وقال ابن الفارض:
وقالُوا: شَرِبْتَ الإثَم! كلاّ، وإنما شرِبْتُ التي في ترْكِها عنديَ الإثْمُ
وقال آخر:
طابَ شُرْبُ المُدامِ في الخَلَواتْ، اسْقِني يا نديمُ بالآنِيَاتْ، خْمْرَةٌ تركُها علينا حرَامٌ، ليسَ فيها إثمٌ ولا شُبُهَاتْ، عُتِّقَتْ في الدَّنان مِنْ قَبْلِ آدمْ ،أصلُها طيّبٌ من الطَّيِّبَاتْ، أَفْتِ لي أيُّهَأ الفقيهُ وقلْ لي: هل يجوزُ شُرْبُها على عَرَفاتْ؟
فيهما إثم كبير عند أهل الحجاب، ونفع كبير عند ذوي الألباب، يعني: في الخمرة الأزلية والغنى بالله، وقوله تعالى: { وإثمهما أكبر من نفعهما }: خطاب على قدر ما يفهم الناس، لأن إثمهما ظاهر للعوام، وهو ما يظهر على النشوان من خراب الظاهر، وصدور الأحوال الغريبة، ونفعهما خاص عند خوصا الخواص، لا يفهمه إلا الخواص، بل يجب كتمه عن غير أهله، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
تفسير ابن عجيبة