آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الحب في الطريقة الصوفية

إن الطرق الصوفية هي المناهج الربانية الخاصة بتطبيق الشريعة الإسلامية كاملة ، أي : بأحكامها المتعلقة بظاهر المسلم وقلبه أو باطنه .
وغاية كل طريقة الوصول إلى الأهداف التي نزل بها الوحي من السماء .
وللطريقة منهج خاص وأهداف إسلامية خاصة تسعى لأجل إيصال مريديها إليها ، وتحاول كل طريقة أن تبرز أهدافها بشكل اصح وأرقى.
أحد أهم أهداف الطريقة الصوفية تنوير الطريق لمريديها كي يصلوا إلى أعلى مراتب المحبة الخالصة الكاملة لله تعالى ، أن يصلوا إلى المحبة الإلهية المطلقة ، ويعبر الصوفيون عن هذه المرتبة بما يعرف في اصطلاحاتهم الخاصة : بمرتبة الفناء في الحضرة الإلهية ، أي : إلى مرتبة التحقيق الذاتي لقوله تعالى : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبّونَهُ .
لقد رسم مشايخهم الطريق الشرعي العملي الأقصر للوصول إلى مرتبة الحب الكامل ، وذلك من خلال الفهم الصحيح والتطبيق لنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة حسب الاجتهاد الرباني لهم . 

إن نقطة الانطلاق للحب - في الطريقة - تبدأ من الفهم الصحيح لقوله تعالى : "إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللَّهَ فاتَّبِعوني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ" ، فهي تنص على أن محبة المسلم لله تعالى غير مجدية ما لم تقترن باتباع حضرة الرسول الأعظم ، فهذا الاتباع يوصل العبد إلى مرتبة المحبوبية ، أي يصبح من أحباب الله ، ومن يحبه الله فهو ذو حظ عظيم .

وبمعنى أخر : إن المحبة لله إذا لم تكن مقرونة باتباع الرسول فإنها محبة صورية وليست محبة حقيقية ، أي محبة وهمية يخدع الإنسان بها نفسه ، قال تعالى يُخادِعونَ اللَّهَ والَّذينَ آمَنوا وَما يَخْدَعونَ إِلّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرونَ ، وأما المحبة الحقيقية فهي التي نصت الآية الكريمة على ان السبيل الوحيد للوصول إليها هو اتباع الحضرة المحمدية المطهرة .

وتأكيداً على أمر الاتباع المطلق ، بين الله في كتابه الكريم أنه لا يجوز للمؤمنين أن يجعلوا من أحد ، بما في ذلك أنفسهم ، أقرب إليهم من الرسول كما في قوله تعالى:(النَّبِيُّ أولى بِالْمُؤْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ )

ولقد جسد المسلمون الأوائل من الصحابة الكرام هذا التفضيل المطلق لحضرة الرسول الأعظم على النفس في كل أمورهم ، ومن ذلك ذودهم بأجسادهم وأرواحهم عن حضرة الرسول الأعظم خلال معاركهم مع أعدائهم من المشركين والكافرين .
إن الأمر القرآني بتقديم الرسول على النفس يعني تقديمه على كل الخلق ، قريبهم وبعيدهم ، ولذلك جاء الحديث الشريف : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين .
إن هذا الاتباع والتفاني لحضرة الرسول الأعظم لدى القوم – مع تجوزنا بقبول المبالغات الروحانية والشطحات الصوفية - ، هو الحجر الأساس في سبيل سلوك طريق المحبة الإلهية . وهو ما نعبر عنه في مصطلحات القوم : بالفناء في الرسول ، واكثرهم يتحاشى التطرق الى نظريات الاتحاد والحلول المرفوضة فقهيا بكل المقاييس !!! ولكن كيف السبيل للوصول إلى هذا الفناء عند المتصوفة .. ؟ يقولون :من الواضح أن الوصول إلى هذا الاتباع المطلق أو الفناء في حضرة الرسول الأعظم في زمن ظهوره كان مقترناً بأمرين :

الأول : ما يحاول الصحابي أن يبذله في سبيل طاعة الرسول الطاعة الكاملة .
الثاني : ما كان يفيضه حضرة الرسول الأعظم على صحابته من أحوال التزكية ، التي كانت تطهر نفوسهم ، وتسمو بأرواحهم إلى حالات من الشفافية ، تستشعر فيها روحانيته الشريفة ونورانيته المقدسة ، فتنجذب لروحه أرواحهم ، ولصفاته صفاتهم ، ولأفعاله أفعالهم ، فلا يعودون بعدها يحبون شيئاً في الوجود كله كحبهم له .

إذاً ما يبذله الصحابي من إيمان وتسليم وطاعة للرسول ، وبالمقابل ما يبذله حضرة الرسول الأعظم لهذا الصحابي من فيوضات حبية نورانية يغمر بها كيانه ، هو ما يوصله إلى الفناء في محبته . وهذا الفناء يوصله بالتالي إلى محبة الله تعالى .. وقد نص حضرته على ذلك بقوله : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا وللحديث رواية أخرى اشهر وآكد عند الفقهاء والاصوليين ( كتاب الله وسنتي )، فصار السير على منهج الوارث المحمدي من أهل البيت ( حسب التعبير الصوفي ) ، والوفاء له ، والإخلاص في طاعته ، ومحبته هو السبيل للوصول إلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم .
إن الحب وهو أسمى وأرقى أنواع العلاقات في الوجود يتأتى نتيجة صفاء القلب ونقائه مما فيه من شوائب مختلفة الألوان ، وتظل العلاقة بين المحب ومحبوبه تسمو وتظهر وتتشابك لتؤدي إلى تطويع إرادة المحب تحت تصرف محبوبه ، وفي نهاية المطاف يمنح المحب أغلى ما لديه واشرف ما يملكه لمحبوبه وهو روحه التي بين جنبيه .

إنها الميل الدائم نحو المحبوب ، والإيثار له ، وهذه بداية بحارها التي لا قرار لها ، يعقبها لحظة من أخطر لحظات المحب بأن ينسى نفسه ، فتذوب صفاته في صفات محبوبه ، فلا يدرك شيئاً إلا ما أراد ورغب ، ويسعى المحب بكل جهوده إلى موافقة محبوبه في رغباته لأرضائه ، فيكون كل كثير عنده قليل حينما يمنحه له ، وكل قليل لدى المحبوب كثير في نظر المحب .
فالمحبة في نظر المحبين : 
بأن يضع المحب أفعاله ونفسه وماله ووقته لمن يحب منحة منه له ، كما يقتضي من المحب أن يمحو من القلب كل شيء سوى المحبوب ، وهذا كمال المحبة ، أما إذا كان في القلب بقية لغير المحبوب ، فالمحبة مدخولة ، ولا يزال المحب غاضباً على نفسه حتى يرضى محبوبه .
لقد اتخذ مشايخ الصوفية محبة الشيخ وسيلة لتوصيل المريد إلى المحبة المحمدية والإلهية ، لأن الحب هو واسطة انتقال التأثيرات الروحية ، لكونه حالة تتجاوز الحواجز المكانية ولا تعتمد على ما يصل بالحواس من أمر الحبيب .
نخلص إلى القول ولا زالت المصطلحات للقوم وللقوم فقط :
إن اتباع الوارث المحمدي ( شيخ الطريقة ) يوصل إلى محبته ، وهذه المحبة هي الطريق إلى محبة حضرة الرسول الأعظم ، وهي الطريق الوحيدة إلى محبة الله تعالى . 
ترتيب المحبة في منهج الطريقة الصوفية :
يأتي ترتيب المحبة في منهج طريق التصوف عموما في مرتبة الوسط بين بداية السلوك ونهاية الوصول ، فالمحبة هي الطريقة التي من خلالها تتلاشى المسافات غير الحسية المعبر عنها بالحجب بين العبد وربه . 
إنها الطريقة التي تجعل العابد ينتقل من الحضور مع العبادة إلى الحضور مع المعبود فيعبد الله كأنه يراه ، ثم توصله إلى مرتبة فناء العابد في المعبود ، حيث يذوب بنور المحبة ، فلا يبقى منه لنفسه شيء ، فيذهب المحب الفاني وتتجلى فيه أنوار المحبوب الباقي ، أي يفنى عن نفسه ويبقى بربه .
إن أوضح نص شرعي يكشف حقيقة المرتبة الوسطية للمحبة ومدى تأثيرها في حياة المريد الروحية ويتمسك به الصوفيون في هذا الباب هو قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح : لا يزال عبدي يتقرب ألي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ،ولئن سالني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه .... الحديث .

والملاحظ في هذا الحديث انه نص على مراتب ثلاث :
الأولى : مرتبة المحافظة على العبادة ( الفرائض ) والاكثار من النوافل .
الثانية : وهي مرتبة المحبة ، أي محبة الله للعبد .
الثالثة : مرتبة الفناء في حضرة المحبوب ، وكان بامكان المتصوفة ان يستعيضوا عن هذا الاسم لهذه المرتبة بــ( مرتبة التوفيق والهداية الالهية )استدلالا بقوله تعالى (أولئك على هدى من ربهم) فكأنّ الهدى مسخر لهم ومطية هم عليه .
ومن المعروف أن لكل شيخ طريقة صوفية ، منهج تعبدي نفلي خاص به وبطريقته ، استنبطه من القرآن الكريم ، وأُذن له بالعمل به وتلقينه لمريديه ، وفي عموم الطرق يقوم هذا المنهج على الذكر الكثير آناء الليل وأطراف النهار بقسميه الخفي والجليّ .( ونقطة الخلاف هنا مع الفقهاء والمفسرين والاصوليين ان الاذكار لاتحتاج الى اذن خاص من الشيخ ، وبالتالي فالاوراد ام خاص بكل مسلم ولا يحتاج لتقنين واذن ولا لحفلات موقّعـــة ، ولربما راقصـــة !!!) !

فالذكر هو الحجر الأساس الذي يوصل إلى محبة المذكور ، فمن أكثر من ذكر شيء أحبه ، ولهذا جاء منهج الطريقة بأعداد كبيرة جداً من الأذكار والأوراد المأذون بها لمريدي الطريقة ، لأنها بالنسبة لهم النافلة التي يبتغون من ورائها الحصول على المحبة .
إذاً بداية الطريق عندنا الذكر الكثير الدائم ، وذلك لأنه يجلو القلب بل يجلو الجوانح والجوارح كلها ويجعلها مستعدة لاستفاضة الإشعاعات النورانية للمحبة ، ولا يزال المريد يتقرب بهذه النافلة حتى تغمره تلك الإشعاعات على قدر ذكره وصفائه ، وعلى قدر قابليته واستعداده .
إنها أنوار غير منفصلة عن مصدرها تمد من تنـزل فيه بحلاوتها فتجعله يشعر بالقرب الروحي من نور السماوات والأرض ، بل وتجعله يلمس ذلك ويتذوقه ، ويرى من خلالها رأي العين الكثير من الحقائق الغيبية التي لا يراها ولا يشعر بها ولا يطلع عليها إلا المحبون خاصة .
الحقيقة إننا نرى أن المحبة غاية المبتدئ ، ولكنها وسيلة للواصل لها المتحقق بها . فليست المحبة وهي القوة الروحية النورانية إلا طاقة علوية نرتجي من ورائها ثمرات وفوائد يصعب حصرها ، لعل أهمها الوصول إلى مرتبة طاعة المحبوب ، الطاعة المطلقة في الظاهر والباطن ، في السر والعلن .

ليست الطاعة – في المنظور الصوفي - كما يتوهم البعض هي القيام ببعض الأوامر والانتهاء عن بعض النواهي بطريقة مجردة عن الحضور بل والإحساس بالمطاع . فالطاعة إذا كانت مصحوبة بالغفلة عن المطاع فهي هياكل خاوية أو مظاهر فارغة ، ليس فيها حياة ، وكيف يكون فيها حياة وهي مفرغة عن لبها ، وعلى سبيل المثال : فإن الصلاة هي عماد الدين ، وثابت أن من أقامها فقد أقام الدين ومن تركها فقد هدم دينه أو أوشك ان يهدمه ، فهل المراد بهذا العماد هو مجرد الألفاظ و الحركات الخالية من حضور القلب مع المصلى له .. ؟!

هل أن الوقوف بين يدي الله تعالى في الصلاة لغرض عبادته ثم التغافل عنه والانشغال بأمور الدنيا وخطرات الشهوات التي وصفها حضرة الرسول الأعظم بأنها جيفة وطالبيها كلاب ، يسمى طاعة ؟ ! وبالتالي يسمى هذا المصلي مطيع ؟!
إن طاعة الله تعالى ورسوله في الصلاة وغيرها من فروض الشريعة ونوافلها ، والانتهاء عن جميع محرماتها وشبهاتها ، يشترط فيه حضور القلب بما يناسب نوع الطاعة ، ولا يتحقق هذا الحضور إلا بالمحبة ، لأن المحبة تعني نزول حال من المحبوب في المحب ، وهذا الحال هو ما يجعل المحب في حضور مع المحبوب !

د.محمد فتحي الحريري

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية