يتّخذ الحبّ معناه الأصيل عندما يبدأ وينتهي الى الى الله. فالله مصدر الحبّ، بل هو الحبّ المطلق، هو النّبع الذّي يستقي منه كلّ محبّ فيض مشاعره وأحاسيسه. فالحبّ إن بقي في إطار العالم بقي عند حافة التّعلّق العاطفي الّذي قد ينتهي أو يتبدّل مع مرور الوقت وانطواء السّنين.
والحبّ المستمدّ من النّبع الأصيل هو العشق الحرّ الّذي لا يدفن نفسه في الأنانيّة والغيرة والتّملّك والسّيطرة. وينطلق حرّاً في هذا العالم ويسمو إلى العلا دون أن يلمس الأرض. ولمّا كان هذا العشق مستمدّاً من العلا اقتضى أن يتّخذ مساراً متسامياً، مترفّعاً عن العالم، زاهداً به.
كما أنّه لا بدّ لهذا العشق أن يعتمد أسلوب حياة كي يصل إلى مبتغاه، وهو أشبه بطريق جلجلة يسلكها العاشق بخطوات ثابتة، ليرتفع على جبل الحبّ متطلّعاً نحو السّماء حيث وطنه الأبديّ.
واللهِ لَوْ حَلَفَ العُشَاقُ أَنَّهُمُ
مَوتَى من الحُبِّ أَو قَتلى لما حَنَثوا
إنّ هذا الحبّ الرّاقي والمتسامي يفتك بكيان الإنسان، عقلاً وروحاً، فيخطف العقل بعظمته السّماويّة ويصوغ منه أفكاراً مستنيرة تتدلّى من كرمة الحكمة. ويسلب الرّوح أشواقها ليحيكها ثوباً زاهداً له وحده.
هو الحبّ الّذي يمسك بيد الإنسان ويسير به في طريق مؤلم ولا نقول موجع، فشتّان بين الألم والوجع. فالأوّل عطر السّعادة الّتي تنبع من فيض الفرح، يتنسّم في حنايا الرّوح ليمنحها نشوة لا يعرفها إلّا من لامس الحقيقة وعايشها. وأمّا الثّاني فوخزات عذاب يسكّنها مخدّر ويخفّفها طبيب.
سرّ الحبّ الحقيقيّ، داء الألم يفتك بالجسد والرّوح ويسير به نحو الموت الّذي هو عتبة الحياة. ليس الموت من الحبّ بدعة أو شغفا زائلا، وإنّما غاية يسعى إليها المحبّون ليتحرّروا من كلّ قيود العالم الفاني، ليحيوا في العالم الباقي.
وإن أقسم العشّاق أنّهم سيموتون حبّاً، فهم صادقون، لأنّ الموت بالنّسبة لهم باب الحياة.
قَوْمٌ إِذا هُجِروا مِن بَعْدِ ما وُصِلوا
ماتوا، وإنْ عادَ وَصْلٌ بَعْدَهُ بٌعِثوا
الموت ربح لمن دخلوا سرّ الحبّ وعاينوه حقيقة مطلقة، فينتفي عنه معنى النّهاية الحتميّة، ويصبح المبتغى إذ إنّه يشرّع لهم أبواب الحياة.
إنّ الموت هو فعل حرّيّة بامتياز، والمعنى أنّ بالموت نتحرّر من كلّ ما يقيّدنا جسديّاً وفكريّاً وروحيّاً، وننطلق كقيمة إنسانيّة نحو الكمال المطلق. تلك هي غاية العاشق، التّحرّر من كلّ شيء للانطلاق نحو كمال الحبّ. هو لا يسعى إلى الموت، أي لا يُقْبل على الانتحار، بل يرنو إليه من بعيد ويتوق إلى تلك اللّحظة الّتي ستخرجه من هذا المنفى إلى الحرّيّة المطلقة.
وبذلك، لا همّ إن تفرّق المحبّون، فهم ومتى انفصلوا عن الزّمان والمكان عبروا إلى اللّازمان واللّامكان، ليبعثوا في حياة جديدة.
ترى المحبّينَ صرعى في ديارهُمُ
كَفِتْيَةِ الكَهْفِ، لا يَدرونَ كمْ لَبِثوا
العاشق الذّي لامس حقيقة الحبّ، يحياها في العالم مع إنّه عمليّاً خرج عن نطاقه. ولكنّه لا بدّ أن يحياها هنا ومنذ الآن، لأنّها ليست محدودة بالمكان والزّمان، وإنّما هي ممتدّة منذ الأزل وإلى الأبد. فترى العاشق يدخل سرّها ويعاينه ويفقد معنى الزّمان والمكان، فيمكث في العالم لكنه متحرّر منه، وكأنّي به يحضن بشماله الأزل وبيمينه الأبد.
يبقى العاشق طريح العالم من شدّة الحبّ، ويترقّب السّاعة المجيدة حيث تنفتح له أبواب المجد الأزلي فيعبر لابساً ثوب العرس، مكلّلاً بأنوار الحبّ، إلى ضياء النّور السّرمدي.
كذا يعبّر ابن الفارض عن الموت عشقاً:
إن شئت أن تحيا سعيدًا فمت بهِ
شهيدًا وإلّا فالغرام له أهلُ
فمن لم يمت في حبّه لم يعش بهِ
ودون اجتناء النّحل ما جنت النّحلُ.