{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } * { وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ }
يقول سيدي ابن عجيبة رضي الله عنه : يقول الحق جل جلاله: { ألم تَرَ } يا محمد، أو أيها السامع { أن الله خلق السماوات والأرض بالحق } لتدل على الحق، أو بالوجه الذي يحقَّ ان تُخلق لأجله، وهو التعريف بخالقها، وبقدرته الباهرة التي تقدر على الإيجاد والإعدام، ولذلك قال: { إن يشأ يُذهبكم ويأت بخَلْقٍ جديدٍ } ، أي: إن يشأ يعدمكم ويستبدل مكانكم خلقاً آخر. فإنَّ من قدر على إيجاد صورهم، وما تتوقف عليه مادتهم، قادر على أن يبدلهم بخلق آخر { وما ذلك على الله بعزيز } أي: بمتعذر، أو ممتنع لأن قدرته عامة التعلق، لا تختص بمقدور دون آخر، ومن كان هذا شأنه كان حقيقاً بأن يُفرد بالعبادة والقصد رجاء لثوابه، وخوفاً من عقابه يوم الجزاء، الذي أشار إليه بقوله: { وبرزوا لله... } إلخ.
الإشارة
ألم تر أن الله خلق سماوات الأرواح، لشهود الحق في مقام التعريف، وأرض النفوس لعبادة الحق في مقام التكليف. الأرواح مستقرها سماء الحقائق، والأشباح مقرها أرض الشرائع. عالم الأرواح محل التعريف، وعالم الأشباح محله التكليف. والأرواح لا تنفك عن الأشباح في الصورة الخلقية، غير أنها تعرج عنها بالتصفية والذكر، حتى تترقى إلى عالم الأرواح، فلا تشهد إلا الأرواح في محل الأشباح؛ وهذا من أعظم أسرار الربوبية، التي يطلع عليها العارفون بالله، فإذا أطلعهم الله على هذا المقام، كُوشفوا بأسرار الذات العلية، وبعالم الأرواح الذي هو مظهر أرواح الأنبياء والرسل، فلا يغيبون عن الله ساعة، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن مقام أرواح الأنبياء والأولياء.
وفي هذا المقام قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: لي ثلاثون سنة، ما غاب عني الحق طرفة عين. وقال أيضاً: لو غاب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ما عددت نفسي من المسلمين. وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضي الله عنه: مما منَّ الله به عليَّ أني ما ذكرتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولا خطر على قلبي إلا وجدتني بين يديه... الخ كلامه. نفعنا الله بهم.
وأهل هذا المقام موجودون في كل زمان، فإن القادر في زمانهم هو القادر في زماننا، وفي قوله تعالى: { إن يشأ يذهبكم... }.
تفسير ابن عجيبة