آخر الأخبار

جاري التحميل ...

السعادة عند الصوفية



       السعادة الصوفية لا تنال بسهولة ويسر ، بل لابد من الصعود والترقي في مجموعة من المراقي والمدارج الصوفية عبر المرور بالعديد من المقامات والأحوال عبر السفر الروحاني إما بواسطة شيخ عارف وإما بواسطة قطب عالم وإما بصحبة صاحب مجرب. ولابد للمريدين أن يمروا من ثلاث مراحل كبرى وهي: التحلية والتخلية واللقاء. وتتطلب كل مرحلة نوعا من الصبر والتجلد وبذل المجهود الكبير من أجل نيل رضى الله والاستمتاع باللقاء والكشف الرباني.

     ويرى ابن سينا أن السعادة الحقيقية لاتكون لا بالحس ولا بالبرهان، بل تكون بالتحلل من إسار الجسد والاتصال بالعالم القدسي النوراني، والسبيل في ذلك هو القلب والروح وتطهير النفس الناطقة، وفي هذا يقول ابن سينا:” وأما إذا انفصلنا عن البدن، وكانت النفس منا قد تنبهت، وهي في البدن، لكمالها الذي هو معشوقها، ولم تحصله وهي بالطبع نازعة إليه، إذ عقلت بالفعل أنه موجود، إلا أن اشتغالها بالبدن، كما قلنا، قد أنساها ذاتها ومعشوقها… عرض لها حينئذ من الألم بفقدانه كفء مايعرف من اللذة التي أوجبنا وجودها، ودللنا على عظم منزلتها، فيكون ذلك هو الشقاوة والعقوبة…فيكون مثلنا حينئذ مثل الخدر(…) أو الذي عمل فيه نار أو زمهرير، فمنعت المادة الملابسة في وجه الحس من الشعور به فلم يتأذ، ثم عرض أن زال العائق فشعر بالبلاء العظيم.

وأما إذا كانت القوة العقلية بلغت من النفس حدا من الكمال، يمكنها به إذا فارقت البدن أن تستكمل الاستكمال التام الذي لها أن تبلغه، كان مثلها مثل الخدر الذي أذيق المطعم الألذ وعرض للحال الأشهى. وكان لا يشعر به فزال عنه الخدر، فطالع اللذة العظيمة دفعة. وتكون تلك اللذة لا من جنس اللذة الحسية والحيوانية بوجه، بل لذة تشاكل الحال الطيبة التي للجواهر الحية المحضة، وهي أجمل من كل لذة وأشرف فهذه هي السعادة وتلك هي الشقاوة.”
ويصرح السهروردي بأن السعادة الصوفية لن تكون إلا بالجذبة والاقتداء بقطب المشيخة وتزكية النفس والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بتجربة الشيخ العارف قصد الوصول إلى مرتبة الكشف والتجلي واللقاء بالذات الربانية المعشوقة . ومن ثم، لا تتحقق السعادة الكلية إلا بالكشف والوصال والتجلي:” والسالك الذي تدورك بالجذبة هو الذي كانت بدايته بالمجاهدة والمكابدة والمعاملة بالإخلاص والوفاء بالشروط، ثم أخرج من وهج المكابدة إلى روح الحال، فوجد العسل بعد العلقم، وتروح بنسمات الفضل، وبرز من مضيق المكابدة على متسع المساهلة، وأونس بنفحات القرب وفتح له باب من المشاهدة فوجد دواءه وفاض وعاؤه، وصدرت منه كلمات الحكمة ومالت إليه القلوب، وتوالى عليه فتوح الغيب وصار ظاهره مسددا وباطنه مشاهدا…. ومن صح في المقام الذي وصفناه هو الشيخ المطلق والعارف المحقق والمحبوب المعتق، نظره دواء وكلامه شفاء، بالله ينطق وبالله يسكت، كما ورد” ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصيرا ومؤيدا، بي ينطق وبي يبصر”، فالشيخ يعطي بالله ويمنع بالله.”



      ويذهب ابن عربي إلى أن السعادة لاتدرك بالحس والعقل، بل بالقلب ووجدان العارف ورؤيا الولي الصالح ، أي إن السعادة تكون بالتجربة الصوفية وقلب العارف واستحضار الباطن والتغزل بالذات المعشوقة عير العرفان و التجلي والكشف الرباني:” اعلم أن القلب- أعني قلب العارف بالله- هو من رحمة الله…. وأن الحق تعالى إذا وسعه القلب لايسع معه غيره من المخلوقات فكأنه يملؤه. ومعنى هذا أنه العارف إذا نظر إلى الحق عند تجليه له لايمكن له أن ينظر معه إلى غيره….



     وإذا كان الحق يتنوع بتنوع تجليه في الصور فبالضرورة يتسع القلب ويضيق بحسب الصورة التي يقع فيها التجلي الإلهي، فإنه لايفضل شيء عن صورة ما يقع فيها التجلي…..
فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورته، وهو الذي يتجلى له فيعرفه.”
وهكذا، يستند مفهوم السعادة عند الصوفية إلى استقراء أحوال القلب ونشدان اللذة الروحانية وتفجير المعرفة اللدنية الوجدانية التي تتجاوز الظاهر إلى الباطن، وتتعدى النص والعقل معا إلى العرفان والحدس الجواني.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية