(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)
يقول الحقّ جلّ جلاله : في شأن اليهود والإنكار عليهم : { أَوَ كُلَّمَا } أعطوا عهداً وعقدوه على أنفسهم طرحه { فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } ؟ فقد أعطوا العهد أنهم إن أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ولينصرنه ، فلما أدركوه نبذوا ذلك العهد ونسوه . وكذلك أعطوا العهد للنبيَ صلى الله عليه وسلم ألا يعاونوا المشركين عليه ، فنبذه بنو قريظة والنضير ، ولم ينقضه جميعهم بل فريق منهم ، وهم الأكثر ، ولذلك قال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } ، فالأكثر هم الناقضون للعهود ، المجاوزون للحدود . والله تعالى أعلم .
الإشارة : نقض العهد مع الله أو مع عباده من علامة النفاق ، ومن شيم أهل البعاد والشقاق ، والوفاء بالعهد من علامة الإيمان ، ومن شيم أهل المحبة والعرفان . قال تعالى في صفة المفلحين : { وَالَّذِينَ هُمْ لأَمانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } [ المؤمنون : 8 ] ، ولا سيما عهود الشيوخ؛ أهل التمكين والرسوخ ، فمن أخذ عقد الصحبة مع الشيخ الذي هو أهل للتربية؛ فيحذر مِنْ حَلّ العقدة بينه وبينه ، فإنَّ ذلك يقطع الإمداد ، ويوجب الطرد والبعاد ، والالتفات إلى غيره تسويس لبذرة الإرادة ، وموجب لقطع الزيادة والإفادة ، ثم إن الانجماع على الشيخ ، وقطع النظر والالتفات إلى غيره هو سبب للكون - كذلك - مع الله ، فبقدر الانقطاع إلى الشيخ يحصل الانقطاع إلى الله ، وبقدر ترك الاختيار وسلب الإرادة مع الشيخ يحصل كذلك مع الله ، وبقدر الوفاء بعهود شيوخ التربية يحصل الوفاء بعهود حقوق الربوبية . فمن كانت غيبته في الشيخ أقوى ، وانحياشه أليه أكثر ، وجمعه عليه أدوم ، كان كذلك مع ربه ، وكذلك التعظيم والأدب ، والله يعامل العبد على حسب ذلك .
قال الشيخ زَرُّوق رضي الله عنه : ( ولا تنتقلْ عنه ، ولو رأيت من هو أعلى منه ، فتحرمَ بركة الأول والثاني ) ، ولذلك كان المشايخ يمنعون أصحابهم من صحبة غيرهم ، بل من زيارتهم ، وأنشدوا :
خُذْ مَا تَراهُ ودَعْ شَيْئاً سَمِعتَ بِهِ
في طلْعَةِ البدرِ ما يُغنيكَ عن زُحَلِ
وحاصل أمر الزيارة لغير شيخه أن فيه تفصيلاً : فمن كَمُل صدقه ، وتوفر عقله ، بحيث إذا زار لا يستنقص شيخه ، ولا الذي زاره ، جاز له أن يزور من شاء ، ومن لم يكمل صِدقُهُ وعقله ، بحيث إذا زار : إما يستنقص شيخه ، أو الشيخ الذي زاره ، فليكف عن زيارة غير شيخه . وقال محيي الدين بن العربي : ويجب على المريد أن يعتقد في شيخه أنه عالم بالله ، ناصح لخلق الله.
تفسير ابن عجيبة