قال الجنيد : ( التوحيد معنى تضْمَحِل فيه الرسوم وتندرج فيه العلوم ، ويكونُ الله كما لم يزل ) .
قلت : وهذا هو التوحيد الخاص ، أعني توحيد أهل الشهود والعيان : ثم قال : ( وأصولُه خمسة أشياء : رفعُ الحدَث ، وإثبات القدم ، وهُجْران الإخُوان ، ومفارقةُ الأوطان ، ونسيان ما عَلِم وجَهِل ) . ه . قلت : قوله : ( وهجران الإخوان ) ، يعني : غيرَ مَنْ يستعين بهم على السير ، وأما من يستعين بهم فلا يستغني عنهم .
واعلم أن توحيد خلق الله تعالى على ثلاثة درجات :
الأولى : توحيد العامة : وهو الذي يعصِمُ النفس والمال ، وينجو به من الخلود في النار ، وهو نَفْيُ الشركاء والأنداد ، والصاحبةِ والأولاد ، والأشباه والأضداد .
الثانية : توحيد الخاصة ، وهو أنْ يَرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده ، ويشاهد ذلك بطريق الكشف لا بطريق الاستدلال ، فإنَّ ذلك حاصل لكل مؤمن ، وإنما مَقامُ الخاصة يقينٌ في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل ، وثمرة هذا العلم الانقطاعُ إلى الله ، والتوكل عليه وحده ، فلا يرجوا الله ، ولا يخاف أحداً سواه ، إذ ليس يَرى فاعلاً إلا الله ، فيَطْرَحُ الأسباب ، وينبذ الأرباب .
الثالثة : ألا يرى في الوجود إلا الله ، ولا يشهد معه سواه ، فيغيبَ عن النظر إلى الأكوان في شهود المُكَوَّن ، وهذا مقام الفناء ، فإن رُدّ إلى شهود الأثر بالله سُمي مقام البقاء . قال بعضَه ابنُ جُزَيّ باختصار .
قلت : وفي التحقيق أنهما أنهما مقامان؛ مقام أهل الدليل والبرهان ، وهو المذكور في الآية ، لأنه هو الذي يطيقه جميع العباد ، ومقام أهل الشهود والعيان ، وهو خاص بالأفراد الذين بذلوا مهجهم في طلب الله ، باعوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله ، فعوّضهم الله في الدنيا جنة المعارف ، وزادهم في الآخرة جنة الزخارف .
( أهل الدليل والبرهان عمومٌ عند أهل الشهود والعيان ) ؛ لأن أهل الشهود والعيان قدسوا الحقّ تعالى عن أن يحتاج إلى دليل ، فكيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف؟ كيف يستدل عليه بما هو في وجوده مفتقر إليه؟ أيكون لغيره من الظهور ما ليس له؟ - متى غاب حتى يحتاج إلى دليل عليه؟ ومتى بَعُد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه؟ ولله در القائل :
لقد ظهرتَ فما تَخْفَى على أحدٍ
إلا على أَكْمَهِ لا يُبْصِرُ القمرَا
لَكِنْ بَطَنْتَ بما أَظْهَرْتَ مُحْتَجِبا
وكيفَ يُبْصَرُ مَن بالعزةِ استترَا؟
وقال آخر :
ما لِلحِجَابِ مَكَانٌ في وجُودِكُمُ
إِلا بِسِرِّ حُروفِ ( انظُرْ إلى الجَبَلَ )
أنتُم دلَلْتُمُ عليكُم مِنكُمُ ولكُمْ
دَيمُومَةٌ عبَّرتْ عَنْ غاَمِضِ الأزلِ
عَرَّفْتُم بكُم هذا الخبيرَ بِكُم
أنتُمْ هُمُ يا حياةَ القلْبِ يا أمَلِي
ولما كانت المحبة تزيد وتنقص باعتبار شهود الوحدانية ، فكلما قَويَ التوحيدُ في القلب قويت المحبة؛ لانحصارها في واحد ، ذكرها بأثر التوحيد .
** ** **