قال تعالى: {... وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ }
الإشارة
قوله تعالى: { وعصى آدمُ ربَّه } ، اعلم أن العصيان الحقيقي هو عصيان القلوب، كالتكبر على عباد الله وتحقير شيء من خلق الله، وكالاعتراض على مقادير الله، وعدم الرضا بأحكام الله. قال بعض الصوفية: (أذنبتُ ذنبًا فأنا أبكي منه أربعين سنة، قيل: وما هو؟ قال: قلت لشيء كان: ليته لم يكن). وأما معصية الجوارح، إن لم يكن معها إصرار، فقد تُوجب القرب من الكريم الغفار؛ " معصية أورثت ذُلاً وافتقارًا خير من طاعة أورثت عزّا واستكبارًا " ، وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول وتأمل معصية إبليس حيث كانت من القلب أورثت طردًا وإبعادًا، ومخالفة آدم؛ حيث كانت الجوارح أورثت قُربًا واجتباء.
والحاصل : أن كل ما يَردُّ العبد إلى مولاه، ويحقق له العبودية والانكسار، فهو شرف له وكمال، وكل ما يُقوي وجود النفس ورفعتها فهو نقص وإبعاد، كائنًا ما كان، فالعصمة والحِفظة إنما هي من المعاصي القلبية، أو من الإصرار، وأما معاصي الجوارح فيجري على العبد ما كتب، ولا تنقصه، بل تكمله، كما تقدم فالتنزيه إنما يكون من النقائص، وهي التي تُوجب البعد عن الحق، لا مما يؤدي إلى الكمال، وبهذا تفهم أن ما وقع من الأنبياء - عليهم السلام - مما صُورته المعصية، ليس بنقص، إنما هو كمال. وكذا ما يصدر من الأولياء، على سبيل الهفوة، فتأمله، ولا تبادر بالاعتراض، حتى تصحب الرجال، فيعلموك النقص من الكمال.
قال الواسطي: العصيان لا يُؤثر في الاجتبائية، وقوله: { وعصى } أي: أظهر خلافًا، ثم أدركته الاجتبائية فأزالت عنه مذمة العصيان، ألا ترى كيف أظهر عذره بقوله: { فنسي ولم نجد له عزمًا }. هـ. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: (نعمت المعصية أورثت الخلافة).
واعلم أن آدم عليه السلام قد أهبط إلى الأرض قبل أن يخلق، قال تعالى:{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً }[البَقَرَة: 30]؛ فقد استخلفه قبل أن يخلقه، لكن حكمته اقتضت وجود الأسباب، فكان أكله سببًا في نزوله للخلافة والرسالة وعمارة الأرض، فهو نزول حسًا، ورفعة معنى، وكذلك زلة العارف تنزله لشرف العبودية، فيرتفع قدره عند الله.
وقوله تعالى: { بعضكم لبعض عدو } ، هذا فيمن غلبت عليها الطينية الإمشاجية، وأما من غلبت عليه الروحانية فهم إخوان متحابون، أخلاء متقون، قال تعالى:{ ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ }[الزُّخرُف: 67].
وقوله تعالى: { فإما يأتينكم مني هدى } أي: داع يدعو إليَّ، ويهدي إلى معرفتي ودخول حضرتي، فمن تبعهم دخل تحت تربيتهم، فلا يضل ولا يشقى، بل يهتدي ويسعد السعادة العظمى.ومن أعرض عن ذكرهم ووعظهم، وتنكب عن صحبتهم، فإن له معيشة ضنكًا، مصحوبة بالحرص والطمع، والجزع والهلع، ونحشره يوم القيامة أعمى عن شهود ذاتنا، فلا يرى إلا الأكوان الحسية، والزخارف الحسية دون أسرار الذات القدسية. قال ربِّ لِمَ حشرتني أعمى عن شهود أسرار المعاني، عند رؤية الأواني، وقد كنتُ بصيرًا في الدنيا ببصر الحس؟ قال: كذلك أتتك آياتنا، وهم الأولياء العارفون، فنسيتها ولم تحتفل بشانها، وكذلك اليوم تُنسى؛ لأن المرء يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه.
قال الورتجبي: ونحشره يوم القيامة أعمى، يعني: جاهلاً بوجود الحق، كما كان جاهلاً في الدنيا، كما قال عليّ - كرم الله وجهه -: من لم يعرف الله في الدنيا لا يعرفه في الآخرة. وقيل: عن رؤية أوليائه وأصفيائه. هـ. وقال القشيري: في الخبر: " مَنْ كان بحالة لقي الله بها " فَمن كان في الدنيا أعمى القلب، يُحشرُ على حالته، يعيش على ما جهل، ويُحشر على ما جهل، ولذلك يقولون: { من بعثنا من مرقدنا }؟ إلى أنْ تصيرْ معارفُهم ضرورية، كما يَتركون التَدبُّرَ في آياتهِ يُتركون غدًا في العقوبة من غير رحمةٍ على ضعفِ حالاتهم. هـ.
وكذلك نجزي من أسرف بالعكوف على شهواته، واغتنام أوقات لذاته، حتى انقضت أيام عمره في البطالة، نجزيه غم الحجاب والبعد عن حضرة الأحباب، حيث لم يصدق بوجود آيات ربه؛ وهم الدعاة إلى الله. ولعذاب حجاب الآخرة أشد وأبقى؛ لدوامه واتصاله، نعوذ بالله من غم الحجاب وسوء الحساب، والتخلف عن حضرة الأحباب. وبالله التوفيق.
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد