{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}
الإشارة
معاملة الأبدان مؤقتة بالأمكان والأزمان ، ومعاملة القلوب أو الأرواح غير مؤقتة بزمان مخصوص ، ولا مكان مخصوص ، فحجَ القلوب ، الأزمنةُ كلها له ميقات ، والأماكن كلها عرفات ، حج القلوب هو العلوب هو العكوف في حضرة علام الغيوب ، وهي مُسَرْمَدَةٌ على الداوم على مَرِّ الليالي والأيام ، فكل وقت عندهم ليلة القدر ، وكل مكان عندهم عرفةُ المشرَّفةُ القدر ، وأنشدوا :
لولا شهودُ جمالكم في ذاتي ما كنتُ أَرْضَى ساعةً بِحَياتي
ما ليلةُ القدرُ الْمُعَظَّمُ شأنُها إلا إذا عَمَرَتْ بكُم أوقَاتِي
إن المحبَّ إذا تمكَّنَ في الهَوَى والحبّ لم يَحْتَجْ إلى ميقاتِ
وقال آخر :
كُلُّ وقتٍ مِنْ حَبيبِي قدْرُهُ كأَلْفِ حَجَّة
فازَ مَنْ خلَّى الشَّوَاغِلْ وَلِموْلاَه تَوَجَّهْ
فمَنْ فَرض على قلبه حجَّ الحضرة فيلتزم الأدب والنظرة ، والسكوتَ والفكرة ، قال تعالى : { وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } [ طه : 108 ] فلا رفث ولا فسوقَ ولا جدال ولا مراء ، إذ مبنى طريقهم على التسليم والرضى ، وما تفعلوا من خير فليس على الله بخفي . وتزودوا بتقوى شهود السَّوَى ، { فإن خير الزاد التقوى } ، وجِمَاعُ التقوى هي مخالفة الهَوى ، ومحبة المولَى ، فهذه تقوى أولي الألباب؛ الذين صفَتْ مِرآة قلوبهم ، فأبصروا الرشد والصواب ، وبالله التوفيق .
تفسير ابن عجيبة