التجلي هو ظهور أنوار الحق للخلق، وهذا الظهور يكون بأنوار الأسماء والصفات، فنقول تجلى الحق لعباده باسم من أسمائه أو بأكثر من ذلك، وكلّ تجلّ له مجلي وهو محلّ التجلي، وفي الإنسان هو القلب، لأنّ القلب هو الذي وسع أنوار الحق وتجلياته، وكلّ تجلّ له حال قوي في القلب يثمر فيه الخشوع، وذلك ثابت بالنصوص، منه قوله تعالى: (فلمّا تجلى ربه للجبل جعله دكّا وخرّ موسى صعقا)، وقوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله)، والقرآن كلامه، وكلامه صفته، فكان ذلك دليلا على التجلي، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما تجلى الله لشيء إلا خشع له).
ويخطئ الكثيرون في قولهم أن تجلي الحق يكون بالصور، وهذا لعمري قول باطل، فإن الله سبحانه هو المصوّر ولا يتصوّر، والصور مخلوقة فكيف يتجلى بالمخلوق؟ فإن قلنا بذلك فنحن نقول بالحلول لأنه حلّ في الصور وهي مخلوقة، فتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، فالحق لا يتجلى بالمخلوق، ولكن يتجلى بأسمائه وصفاته، وربما ذكر بعض المحققين أن الحق يتجلى بالأشياء -وربما كان ذلك إشكالية اصطلاحية- فإن هم قصدوا بذلك تنزّل أنوار الحق بالصور فلا بأس، ولكن يجب التوضيح أن الحق يتنزّل بالأشياء ولا يتجلى بها، أما إن كان المحقّق يقصد بالفعل بقوله تجلي الحق بالصور أي ظهوره بها فهو قائل بالحلول ومعتقدٌ به، ويكون بذلك على ضلال، لأنه بذلك قد وافق النصارى في عقيدة الحلول وقد قال الحق عنهم: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم)، فهم زعموا أن الله سبحانه قد ظهر بصورة إنسان، ومن هنا كان ضلالهم وكفرهم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وما زعمه بعض القائلين بأن جميع ما في الكون من مخلوقات هي صور الله التي تجلى وظهر بها فباطل، فإن من قال بذلك يعطّل جميع الأسماء والصفات، لأن الخلق يقتضي العبد والمعبود، والإله والمألوه، والخلق والخالق، والصنعة والصانع.. فإن الحق خلق وصنع وأنزل الكتب السماوية وأرسل الرسل لهداية الخلق وخلق الجنة والنار، فهو لا يحاسب نفسه، ولا يعذب نفسه، ولا يكافئ نفسه، ولا ينهى عن الشر ويأتيه، ولا يأمر بالخير ويتركه.. فهذا هو ما يسمى بالقول بوحدة الوجود.. وهو باطل.. فنحن نثبت ما أثبته الله في كتبه وعلى ألسنة رسله أنه خلق الخلق لعبادته، وأوجب عليهم طاعته.. ونؤمن بالموت والبعث والنشور والحساب والجنة والنار.. ولا مجال لغير ذلك..
ولمّا كان الحق سبحانه ليس كمثله شيء، ولا يضاهيه شيء، ولا يجوز أن ننسب له من صفات المخلوق شيئاً، ولمّا كان له سبحانه أن يضرب الأمثلة فيما يريد، فقد أراد أن يتعرّف إلى خلقه بالمثال، فتنزّل لهم.. ومن هنا كانت حقيقة التنزّل، وهو نزول الحق من صفاته إلى صفات المخلوق على سبيل المثال لا الحقيقة ليعرفوه جلّ في علاه، وسمّي تنزّلاً لأنه من الأعلى إلى الأدنى.. أو نقول إن التنزّل هو نزول الحق من صفاته (ليس كمثله شيء)،إلى صفات خلقه ليقرّب لهم ما عجزوا عنه وليعرفوه بما يعرفون من الأمثال (ولله المثل الأعلى)،(وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم).
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (يتنزّل ربكم كل ليلة إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل الآخر فيقول هل من سائل؟ هل من داع؟ هل من مستغفر؟.. وذلك كل ليلة)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فهنا يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم التنزل الإلهي الذي هو كناية عن القرب بالنزول إلى السماء الدنيا، وهذا مثال وليس حقيقة، فأنى للسماء بل وأنى للكون كلّه أن يتسع لله جلّ في علاه.. وفي القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ما يدل على ذلك، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان)،فاليد هنا هي ضرب مثال للكرم والعطاء، وقوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق)، فهو كناية عن الشدة والهول، ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه في الحديث القدسي: (ابن آدم، مرضت فلم تعدني...)،وقوله: (ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، وقوله: (لله أفرح بتوبة عبده) وقوله: (ألا إن الله ليضحك لرجلين...)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وضع يده بين كتفيّ حتى وجدت برد أنامله على صدري فعلمت ما بين المشرق والمغرب)،.. وغير ذلك.. وهذا كلّه هو من ضرب المثال وليس الحقيقة.. يقول تعالى: (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون)، ويقول تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون).
وجميع ما كان من ذلك من ضروب الأمثلة يكون في عالم البرزخ.. فإن الحق يتنزل بالصور في عالم البرزخ وعالم المثال هو عالم الصور وهو جزء من عالم البرزخ.. ومن ذلك رؤية الحق بالصورة في المنام، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي في أحسن صورة)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ومنه كذلك رؤية أهل الله رب العزة في منامهم.. ولهذا من نظر إلى عالم البرزخ قال إن لله يد وله عين وهو يضحك وهو يهرول وغير ذلك، وهذا القول صحيح إذا نسب إلى عالم المثال، وليس صحيحاً إذا كان الكلام على سبيل الحقيقة، فإن الإله خلق الآلات ليُستعان بها، فكيف يحتاج الآلات وهو الغني عن كل شيء.. وكلّ قول أو حديث وردت فيه الصورة بحق المولى سبحانه فهو تنزّل بالصورة في عالم المثال أو عالم البرزخ أو عالم الصور.. وهذه العوالم لا تظهر للخلق في الدنيا ولكن تصبح مرئية في الآخرة، (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد)، وذلك يفسّر قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة)،وقوله: (وجاء ربك والملك صفا صفا)، وغير ذلك من النصوص..
أمّا التجلي فمحله القلب لأن القلب مجلي جميع التجليات الأسمائية والصفاتية.. والتنزل محله الخيال لأن الخيال هو صورة عالم البرزخ في الإنسان.. والتنزل لا يكون فقط بالصور فهو يمكن أن يكون بأي شيء كالمؤانسة والمشاهدة والمخاطبة وغير ذلك.. والعلوم والمخاطبات التي تأتي حال التنزل تسمى منازلات.
ذ. عبد الرزاق آيت ناجم