آخر الأخبار

جاري التحميل ...

علم التصوف وإشراقاته الروحية .

إن التصوف بصفة عامة بطرقه ومناهجه التربوية المنصبة في بوتقة واحدة يمثل جوهر الدين وأساسه المتين لأن مقصوده وهدفه تقوية العلاقة أو الصلة بالله تعالى وذلك بتصفية البواطن والسرائر حتى يكون العبد على حالة يرضاها الله ورسوله ظاهرا وباطنا، لهذا فهو منبثق من دائرة الإحسان التي هي أعلى درجات ومقامات الدين.
وانطلاقا من هذه الحقيقة المسلمة فإن مدرسة التصوف مدرسة روحية أخلاقية دينية تقوم على المجاهدة والإنابة إلى الله تعالى وعلى تذوق البعد الإيماني الوجداني في العبادة والذي يحقق أحوالا من اليقين والاطمئنان لا توفرها الرفاهية المادية، بل إنما تحصل عن طريق صفاء الفؤاد ونقاء السرائر لأن المنهج الصوفي يهتم بالدرجة الأولى بمعرفة الحق ومراقبته لأن أعماله وأحواله هي التي ينشأ عنها علمه الذي ينسكب في القلوب الصافية المخلَصة انسكابا يملأها نورا وحكمة، وهذا العلم يحقق الكمالات العرفانية لأنه علم الحقائق والمعاني الروحية السامية، فهو إذا عبارة عما اشتملت عليه قلوب أهل الله الخلّص من المعارف وحقائق التوحيد وغوامض العلوم اللدنية التي لا تطيقها جل الفهوم البشرية، وهي من أسرار الله تعالى التي تتجلى أنوارا وفهوما وأذواقا ومشاهدَ في قلوب العارفين شهودًا للمعاني الملكوتية في المباني الملكية أو قلْ شهودًا لأنوار سرائر الحرية المعنوية في كثائف الظواهر الحسية، أو شهودا لأنوار الربوبية في قوالب العبودية، أو شهودا لأنوار الحق في مظاهر الخلق، بحيث يفنى الشاهد عن وجود المخلوقات عينا وأثرا بغيبته في شهود الحق، فإن كان مع مراعاته الحكمة الظاهرة فهول وإلا فهو ناقص، لأن من نظر ببصيرته لعالم القدرة الباطنة وجد الحقيقة محضة ومن نظر ببصره لعالم الحكمة الظاهرة وجد الشريعة محضة.

لكن كل ما ظهر على العبد من عمل الحكمة إنما هو من فعل القدرة، فالقدرة باطنة فيه والحكمة ظاهرة عليه. يقول أبو بكر الواسطي:" النظر إلى المشيئة حقيقة والنظر إلى السبب شريعة"، فهما إذا الأختان اللتان لا يحرم الجمع بينهما بل لا بد منه لمن أراد كمال الدين.
ولهذا نقول:" إنه لا وصول للحقيقة إلا بعد تحقيق ظاهر الشريعة" ولا يكون ذلك أيضا إلا من خلال سلوك نهج الطريقة قال تعالى:"واتوا البيوت من أبوابها"( [البقرة: 189) فالحقيقة قلب والشريعة قالب، وإن شئت قلت الحقيقة جوهر والشريعة مظهر ولا قيام لأيٍّ منهما دون الأخرى. 
وكل ما شرع الله سبحانه وتعالى من الأعمال الظاهرة التي مرجعها الامتثال والاجتناب فهو شريعة والحصول على ثمرته حقيقة كما أن السير على بَرِّ الشريعة مع التطهر ببحر الحقيقة هو الطريقة. قال تعالى:"ثم جعلناك على شريعة من الأمر"(الجاثية: 18) أي طريقة؛ وبالتالي فالتمظهر بالشريعة مناطه الجوارح الظاهرة، وعمل الطريقة مداره إصلاح الضمائر الباطنة، والحقيقة هي مشاهدة الأنوار والحقائق. أو قل: الشريعة هي الكتاب والسنة، والطريقة تجسيد العمل بهما فهي غير زائدة عليها لأنها عمل بأذكار مشروعة، والحقيقة هي التوحيد الخاص الذي هو المعرفة الشهودية. وعليه فالشريعة أدب من الله إلى الله والطريقة سير منه إليه والحقيقة وصول منه إليه:"وإليه يرجع الأمر كله" [هود: 123]
يقول الناظم:
جمع الشريعة مع الطريقـــــــهْ وجمع هاتين مع الحقيــقـــــه لا بد منه للذي قد سلـكـــــــــــا طريق الآخرة كي لا يهلـكــا أما الشريعة فما الله أمــــــــــرْ به وما عنه عباده زجــــــــرثم الطريقة لدى كل نبـــــــــــه جرى على ذلك والعملِ بــــه ونظرٍ إلى بواطن الأمـــــــــور والفعل يُشهد من الله الشكــــورهـــو الحقــيقة وتســـتبيـــــــــنْ في قوله إياك نستعــــيــــــن. 
وقال الشيخ إبراهيم إنياس: جمع الشريعة مع الطريــقـــــهْ إلى الحقيقة العرى الوثيقـــه. وإذا فهذه الثلاثة متلازمة بالنسبة للمسلم المؤمن المحسن والمراد منها إقامة العبودية على الوجه المراد من العبد وعلى ذلك فالمتكلم في أحكام الإسلام يسمى فقيها والمتكلم في شعب الإيمان يسمى أصوليا والمتكلم في مراتب الإحسان يسمى صوفيا. وعليه فالحقيقة والشريعة لا تناقض بينهما ولا تغاير بل هما متلازمتان فالشريعة هي وظائف الجوارح الظاهرة والحقيقة هي وظائف القلب والروح وهما بالنسبة للإنسان بمثابة العينان إحداهما تنظر لعالم القدرة والثانية تنظر لعالم الحكمة، وفقدان إحداهما عور ومن أهمل إحداهما سقط من عين الله ولا يقبل منه صرف ولا عدل لأن من تحقق ولم يتشرع فقد تزندق لإبطاله الحكمة ولأنه صارت حقيقته عُريانة مكشوفة فإن كان محقا بحيث غلبه السكر وقتل عليها كان شهيدا وإن كان مدعيا كان بعيدا ومن الحضرة طريدا ومن تشرع ولم يتحقق فقد تفسّق لقصور نظره عن شهود القدرة فتكون أعماله أشباحا بلا أرواح ولا تخلو غالبا من الشرك الخفي قال الله تعالى:"إياك نعبد وإياك نستعين"[الفاتحة: 5] فشطر الآية الأول شريعة وشطرها الثاني حقيقة. ولهذا أمر القرآن والسنة بهما معا فكانا من هذه الحيثية شيئا واحدا لدخولهما في باب الأمر الشرعي. قال الله تعالى:"واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا...."[النساء: 36] فقد جمعت الآية بين التشرع والتحقق، وأما السنة فقد تقدم ذكر الإحسان في حديث جبريل كما أنهما من باب الثواب عليهما معا يقول القرآن الكريم :"إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا" [الكهف: 107- 108] وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: {أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خيرٍ منهم وإن تقرّب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إليّ ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة} وفي هذا المضمار يقول الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي: "المراد بالشريعة الحكم بالظاهر وبالحقيقة الحكم بالباطن كقتل من استحق القتل باطنا من غير ثبوت ما يوجب ذلك عليه باعتراف وبينة وثبوت ذلك لـه صلى الله عليه وسلم ثابت معروف، أما حكمه بالظاهر فواضح وأما حكمه بالباطن فنص عليه غير واحد من العلماء، ووردت أحاديث تشهد لـه بذلك قال القرطبي: أجمع العلماء عن بكرة أبيهم أنه لا يجوز لحاكم أن يقتل بعلمه إلا النبي صلى الله عليه وسلم وقال الحافظ ابن دحية اختصّ النبي صلى الله عليه وسلم بأن له قتل من اتهمه بالزنا من غير بينة ولا يجوز ذلك لغيره".
وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني في الطبقات: "اعلم يا أخي رحمك الله أن علم التصوف عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعلم بالكتاب والسنة فكل من عمل بهما انقدح له من ذلك علوم وآداب وأسرارٌ وحقائقُ تعجِز الألسن عنها نظيرُ ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام حين عملوا بما علموه من أحكامها، فالتصوف إنما هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة إذا خلا عمله من العلل وحظوظ النفس كما أن علم المعاني والبيان زبدة علم النحو فمن جعل علم التصوف علما مستقلا صدق ومن جعله من عين أحكام الشريعة صدق كما أن من جعل علم المعاني والبيان علما مستقلا فقد صدق ومن جعله من جملة علم النحو فقد صدق لكنه لا يُشرِف على ذهن أن علم التصوف تفرع من عين الشريعة إلا من تبحر في علم الشريعة حتى بلغ إلى الغاية.
ثم إن العبد إذا دخل طريق القوم وتبحر فيها أعطاه الله هناك قوة الاستنباط نظيرَ الأحكام والظاهرة على حد سواء، فيستنبط في الطريق واجبات ومندوبات وآدابا ومحرمات وخلافُ الأول نظيرُ ما فعله المجتهدون وليس إيجاب مجتهد باجتهاده شيئا لم تصرح الشريعة بوجوبه كما صرح بذلك اليافعيُّ وغيرُه، وإيضاح ذلك أنهم كلهم عدول في الشرع اختارهم الله عز وجل لديه فمن دقق النظر علم أنه لا يخرج شيء من علوم أهل الله تعالى عن الشريعة وكيف تخرج علومهم عن الشريعة والشريعة هي وصلتهم إلى الله عز وجل في كل لحظة. ولكن أصل استغراب من لا له إلمام بأهل الطريق أن علم التصوف من عين الشريعة كونه لم يتبحر في علم الشريعة ولذلك قال الجنيد رحمه الله تعالى:" علمنا هذا مشيد بالكتاب والسنة..." ردا على من توهم خروجه عنهما في ذلك الزمان أو غيره، وقد أجمع القوم على أنه لا يصلح للتصدر في طريق الله عز وجل إلا من تبحر في علم الشريعة وعلِم منطوقها ومفهومها وخاصها وعامها وناسخها ومنسوخها وتبحر في لغة العرب حتى عرف مجازاتها واستعاراتها وغير ذلك فكل صوفي فقيه ولا عكسَ، وبالجملة فما أنكر أحوال الصوفية إلا من جهل حالهم وقال القشيري:" لم يكن عصر في مدة الإسلام وفيه شيخ من هذه الطائفة إلا وأئمة ذلك الوقت من العلماء قد استسلموا لذلك الشيخ وتواضعوا لـه وتبركوا به ولولا مزيةٌ وخصوصية للقوم لكان الأمر بالعكس".
وإذا فعلم التصوف يطلق على أحكام القلب وأحوال الروح مع تعلق ذلك كله بالأحكام الشرعية الواجب على الأمة اتباعها والعملُ بمقتضاها، وتسميته بعلم الحقيقة أو علم الحكمة أو علم الإشارة أو علم الفهم عن الله أو العلم اللدني أو العلم الباطني ونحو ذلك فكلها ألقاب ومصطلحات ولا ينبغي النفور من المصطلحات عند إطلاقها دون تبصر ورؤية حتى يعلم المراد ويتضح المقصود منها لأن العبرة بالمصطلح عليه لا المصطلح نفسه بل لا مُشاحّة في الاصطلاح، والألفاظ اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة عند الكل أما ما هو متعارف عند البعض فقط فيصطلح للتعبير عنه بلفظ يفهمه أهله. وقد روى البخاري معلقا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذَّب اللهُ ورسوله". وهذا العلم الخاص إنما هو في الصدور لا في السطور وما على الأوراق منه إنما هو وصفه والوصف غير الحقيقة. ولهذا قال الشيخ الأكبر ابن عربي:"ما من طائفة تحمل علما من المناطقة والنحاة وأهل الهندسة والحساب والمتكلمين والفلاسفة إلا ولهم اصطلاح لا يعلمه الدخيل فيهم". وقال أيضا:"نحن قوم تحرم المطالعة في كتبنا إلا لعارف باصطلاحنا". وقال الإمام الشعراني: "ومن خاصية طريق القوم أن الصادق من المريدين إذا دخل طريقهم يعرف جميع ما اصطلحوا بالخاصية من أول قدم يضعه في طريقهم حتى كأنه الواضع لذلك الاصطلاح". ويقول أيضا كما في اليواقيت والجواهر: قال شيخ الإسلام المخزومي: "ولا يسوغ له الإنكار عليهم حتى يعرف سبعين أمرا منها معرفة اصطلاحاتهم في التجلي الذاتي والصوري وما هو الذات وذات الذات ومعرفة حضرات الأسماء والصفات والفرق بين الحضرات والفرق بين الأحدية والواحدية ومعرفة سر الظهور والبطون والأزل والأبد وعالم الغيب والشهادة والشوق وعلم الماهية والهوية والسكر والصحو والمحبة ومن هو الصادق في السكر حتى يسامح والكاذب حتى يؤاخذ وغيرها.. إلى أن قال: فمن لم يترق إلى هذه المقامات ولم يشم نفحة من نفحات التجليات ولم يذق ثمرة من ثمرات التدليات ولم يرتشف من بحار الولاية فكيف يحل له أن يعبر عن كلامهم أو ينكر عليهم في سيرتهم ومقاماتهم مما هو عنه بمعزل". 
وفي مقدمة ابن خلدون:"أما الكلام في المجاهدات والمقامات وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها ومحاسبة النفس على التقصير في أسبابها فأمر لا مدفع فيه لأحد وأذواقهم فيه صحيحة والتحقق بما هو عين السعادة". ويؤيد ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى;"إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا"[الإنسان: 5-6] قال: هم الأولياء. وعنه في قوله تعالى:" أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ..." [الرعد: 17] قال: هو ماء الحكمة والأودية هي القلوب، وعنه أيضا في قوله تعالى: "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه"[الجاثية: 12] قال: في كل شيء اسم من أسمائه وأفعاله باطنا بقدرته ظاهرا بحكمته ظهر بصفاته وبطن بذاته حجب الذات بالصفات وحجب الصفات بالأفعال وكشف العلم بالإرادة وأظهر الإرادة بالحركات وأخفى الصنع في الصنعة وأظهر الصنع بالذوات فهو باطن في عينه وظاهر بحكمته وقدرته:"ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"[الشورى: 9] .فعلى هذا لو كان الأمر محصورا في المحسوسات ما ضرب الله لنا الأمثال للأمور المعنوية بالأمور الحسية كضربه مثلا للعلم النافع بالمطر النازل من السماء، فكما أن المطر تعمر به الأودية فكذلك المدد الفائض من حضرة الغيب تسيل به أودية القلوب
وأيا كان الأمر فعلم الشريعة هو ما يتعلق به تكميل الهيآت النفسانية والروحانية وعلم الحقيقة هو علم معرفة الحق عز وجل بأسمائه وصفاته وأفعاله، وقد أجمع الصوفيون سلفا وخلفا على أن لا حقيقةَ بلا شريعة ولا شريعة بدون حقيقة وذلك باعتبار الحقيقة تمثل العقيدة التي هي جوهر الشريعة، لذلك فالأعمال الشرعية تنقسم إلى: أعمال ظاهرة وأعمال باطنة فمثلا: الطهارة والصلاة والزكاة والحج وغير ذلك كلها أعمال وعبادات ظاهرة متعلقة بأعمال باطنة هي النية والتصديق والمراقبة والتفكر ونحو ذلك من أعمال القلوب، لأن العلم متى ما كان في القلب فهو باطن فإذا ظهر على اللسان وطبق بالجوارح فهو ظاهر، ومن هذا المنطلق فإن الشريعة تدعو إلى الأعمال الظاهرة والباطنة على حد سواء لأن الإسلام من حيث هو له ظاهر وله باطن فظاهره الإسلام وباطنه الإيمان "قالت الأعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم"[الحجرات: 14] والله سبحانه وتعالى هو الظاهر الباطن "هو الأول والآخر والظاهر والباطن"[الحديد: 3]، لهذا فالتلازم قائم بين الظاهر والباطن فما استودع في غيب السرائر ظهر في الشهادة على الظواهر، وبالتالي فالشريعة والحقيقة عبارتان إحداهما يُعبَّر بها عن صحة حال الظاهر والثانية يعبر بها عن إقامة حال الباطن، وهما في المثال بمثابة شخص حي بالروح والجسد، فتكامله لا يكون إلا بهما معا، فالتشرّعُ من غير تحقّقٍ جسمٌ بلا روح، والتحقق من غير تشرّع روح بلا جسد؛ والأرواح لا قوام لها في هذا العالم إلا بالأجساد.
وبناء عليه فإن الشريعة مؤيدة بالحقيقة والحقيقة مقيدة بالشريعة، فالشريعة: عبادة الله وطاعته؛ والحقيقة: مراقبته ومعرفته. ولذلك كان لإصلاح وطهارة ظاهر الإنسان تأثير كبير في إشراق وتنوير باطنه الذي هو القلب، يقول القشيري:"كل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فأمرها غير مقبول وكل حقيقة غير مؤيدة بالشريعة فأمرها غير محصول". وفي أجوبة الفاسي: "الشريعة والحقيقة لفظان متباينان من حيث المدلول أما من حيث الحكم فالتفريق بينهما ودعوى التناقض ورفض إحداهما ربما كان كفرا أو زندقة". ويقول الشيخ زروق: "فمن عامل الحق بالحقيقة والخلق بالشريعة فهو صوفي ومن عاملهما بالشريعة فهو سني ومن عاملهما بالحقيقة فهو زنديق" وعنه أيضا أنه قال: "كل باطن تجرد عن الشريعة باطل وجيده من الحقيقة عاطل". وعن سهل ابن عبد الله أنه قال: "احفظوا السواد على البياض فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق". وعن أبي بكر الدقاق: "سمعت أبا سعيد الخراز يقول: كل باطن يخالف ظاهرا فهو باطل". وقال الإمام الغزالي:"من قال إن الحقيقة تخالف الشريعة أو الباطن يخالف الظاهر فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان". وقال الشيخ محمد المغربي الشاذلي: "اطلب طريق سادتك من القوم وإن قلوا وإياك وطريق الجاهلين بطريقهم وإن جلوا وكفى شرفا لعلم القوم قول موسى عليه السلام للخضر: (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا) وهذا أعظم دليل على وجوب طلب علم الحقيقة، كما يجب طلب علم الشريعة وكل عن مقامه يتكلم".قلت والدليل على أن الشريعة منفصلة عن الحقيقة من حيث مدلول اللفظ الظاهر لا من حيث الحكم الباطن هو أن التصديق في الإيمان منفصل عن القول باللسان، لكن الإيمان لا يكون ولا يصح إلا بالإطلاقين: الظاهر الذي هو الإقرار باللسان، والباطن الذي هو التصديق بالجنان؛ فالشريعة إذن هي القيام بالأركان والحقيقة هي أصل الإيمان. وقد قال الله تعالى:"وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة"[لقمان: 20] فلكل شيء ظاهر وباطن كائنا ما كان، وفي حديث حارثة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أصبحت يا حارثة"؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا. فقال له: انظر ما ‏تقول فإن لكل قول حقيقة قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري ‏فكأني بعرش ربي بارزا وكأني بأهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني بأهل النار يتعاوون فيها، ‏قال: عرفتَ فالزمْ، عبدٌ نوَّر اللهُ الإيمانَ في قلبه. [أخرجه الطبراني‎] .
وروى أنس بن مالك رضي الله عنه أن معاذ بن جبل رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال لـه: "كيف أصبحت يا معاذ؟" قال "أصبحت بالله مؤمنا حقا" قال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل قول مصداقا ولكل حق حقيقة فما مصداق ما تقول؟" قال: "يا نبي الله ما أصبحت صباحا قط إلا ظننت أني لا أمسي ولا أمسيت مساء قط إلا ظننت أن لا أتبعها أخرى وكأني أنظر إلى كل أمة جاثية تدعي إلى كتابها مع نبيها وأوثانها التي كانت تعبد من دون الله تعالى وكأني أنظر إلى عقوبة أهل النار وثواب أهل الجنة"قال صلى الله عليه وسلم: "عرفت فالزم". وفي رواية أنه لقيه الرسول ذات صباح فسأله "كيف أصبحت يا معاذ"؟ قال" أصبحت مؤمنا حقا يا رسول الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك"؟ قال معاذ:" ما أصبحت قط، إلا ظننت أني لا أمسي ولا أمسيت مساء إلا ظننت أني لا أصبح. ولا خطوت خطوة إلا ظننت أني لا أتبعها غيرها..وكأني أنظر إلى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها. وكأني أرى أهل الجنة في الجنة ينعمون..وأهل النار في النار يعذبون.."فقال له الرسول:" عرفت فالزم"...
ومما تقدم يتبين أن علم السلوك أو التصوف من صميم الشريعة المحمدية وأن أصله قول الحق جلَّت قدرته وتعالت عظمته في حق من أتحفه بجملة العطايا الوهبية وخصه برتب العبودية والمحبوبية:"وقل ربي زدني علما"[طه: 114] وقوله تعالى:"وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما"[النساء: 113] وقوله في حق عبده الصالح الخضر عليه السلام منوها بمكانته ومنبها على ما اختصه به من علم لدني: "وعلمناه من لدنا علما"[الكهف: 65] وقوله: "فاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ"[النحل: 43] وقوله:"فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك" [محمد: 19] وقوله: "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم" [آل عمران: 18] وقوله: "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون"[العنكبوت:49] وقوله: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"[المجادلة :11] وقوله عن نبيه يوسف عليه السلام:"ولما بلغ أشده آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزي المحسنين"[يوسف: 22] وقوله عن كليمه موسى عليه السلام: "ولما بلغ أشده واستوي آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزي المحسنين"[القصص:114] وقوله عن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام:"يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل"[المائدة: 110] وقوله تعالى:"إنَّما يخشى الله من عباده العلماء" [فاطر: 28] وقوله:"نَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا"[الإسراء :107-109] وقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: "...إن العلماء ورثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر" [أخرجه الترمذي (2682)]. وفي مشكاة الفتح الرباني روى أحمد والبخاري "أن الإمام علي بن أبي طالب رضي عنه سئل هل خصكم رسول الله بشيء دون الناس فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه". وروي عنه أنه كان كثيرا ما يشير إلى صدره قائلا:"إن هاهنا لََعلوما جمة لو وجدت لها حملة". ونقل العلامة محمد العاقب ابن ميابي في مجمع البحرين أن النبي صلى الله عليه وسلم لقن عليا ابن أبي طالب رضي الله عنه من علوم لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عند جبريل ولا ميكائيل فقال لـه ابن عباس: /كيف ذلك يا أمير المؤمنين؟/ فقال: /إن جبريل عليه السلام تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء/ وقال: (وما منا إلا لـه مقام معلوم) [الصافات: 164] فلا يدري ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى ابن عبد البر من حديث الحسن مرسلا بإسناد صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العلم علمان علم على اللسان فذلك حجة الله على خلقه وعلم في القلب فذلك العلم النافع" وروى الإمام ابن تيمية في كتابه: الإيمان [ص/ 16] عن أبي حيان التميمي أنه قال: العلماء ثلاثة: فعالم بالله ليس عالما بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالما بالله، وعالم بالله عالم بأمر الله.قلت والعلم بالله هو العلم المصطلح عليه بعلم الحقيقة أو علم التصوف:عباراتنا شتى ومعنى واحد وكلٌّ إلى ذاك الكمال يشير.
وهذا العلم كما أسلفت القول إنما هو فيوضات ربانية تفيض على الأرواح من حضرة القدس ولا ينعت بفلسفة ولا فكر عقلاني ولا آراء شخصية، وأصحابه ليسوا فلاسفة يحترفون الفكر الفلسفي الناشئ عن البحث العقلي أو الميتافيزيقا وكيف لا والمصطفى صلى الله عليه وسلم هو القائل: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" [متفق عليه] بل هو أسرار ربانية وحقائق قلبية وأنوار إلهية ومعارف نورانية ومكاشفات باطنية تتجلى في أرواح وقلوب العارفين، ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أنه قال: /أسرّ إلي النبي صلى اله عليه وسلم سرا فما أخبرت به أحدا ولقد سألتني أم سليم فما أخبرتها به/. وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: /حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابي علم أما أحدهما فبثثته لكم وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم/ قال الحافظ بن حجر في شرحه له: /إن الأحاديث المكتومة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها/. وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي الدرداء أنه قال لعلقمة: /أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره/ يعني حذيفة. قال ابن حجر في شرحه: /فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي علما غير علم الأحكام الشرعية/. 
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: /لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: ائتوني بكتاب اكتب لكم فيه كتابا لا تضلوا بعده" قال عمر: /إن النبي صلى الله عليه وسلم اشتد عليه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا/ فاختلفوا وكثر اللغط قال: "قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع" فخرج ابن عباس يقول: /إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه/ قال ابن حجر في شرحه: /ودل أمره لهم بالقيام على أن أمره الأول كان على وجه الاختيار ولهذا عاش صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أياما ولم يعاود أمرهم بذلك ولو كان واجبا لم يتركه لاختلافهم لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف/.واعلم أن من فوائد هذا العلم كون صاحبه لا ينكر التجليات الواقعة في مواطن الآخرة ولا يقول للحق إذا تجلى لـه نعوذ بالله منك، كما أنه أيضا يمثل أحد ألوان وأنواع علوم الغيب المحجوبة المستورة والتي تنقسم في مجملها عند أهل العلم إلى قسمين:
1)- علم غيبي مطلق: وهو العلم الذاتي المحيط بالجزئيات والكليات وهو خاص بالله تعالى لا يشاركه فيه أحد البته لأنه من خصائص الربوبية ولا مجال فيه للبشرية على الإطلاق لأنه علم أزلي سرمدي قديم حقيقي إذ لا يتجدد لله تعالى علم بعد جهل ولا يلحقه نسيان بعد علم، وهذا العلم يتعلق بغيب الغيب الذي يستحيل إدراكه بواسطة الحواس أو الآلات والأدوات المادية كحقيقة ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته وأسمائه إذ العلم بذلك على وجه الأصالة والذاتية و الإطلاق والإحاطة لا يُشارك الله فيه غيرُه، وإليه تُشير الآيات النافية لإمكانية اطلاع الإنسان على الغيب وتصرّح بأن العلم بالغيب والشهادة مختص بالحق جل جلاله كقوله سبحانه: "قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون" [النمل: 65] وقوله: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا جبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين" [الأنعام: 59] وقوله: "إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ما ذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير"[لقمان: 34] وقوله: "عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم"[الأنعام: 73] وقوله: (وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [هود: 123] ونحو ذلك من الآيات التي تثبت أنه لا يحيط بالمغيبات علما إلا الله تعالى.
2)- علم غيبي مقيد: وهو الغيب النسبي الحادث الذي غاب عن بعض الناس دون بعض وهو ما عند العباد من معرفة الله تعالى هذه المعرفة المتمثلة في تجلي حقائق وأسماء ونِسب وعوالم وحضرات ودوائر التوحيد الخاص في قلوب وبصائر أولياء الله تعالى والتي هي وهبية كشفية إلهمية، وتحصل لأهل الله الذين يشاهدون الله بقلوبهم وسرائرهم، وإذا فهذا العلم الغيبي المقيد هو علم الإشارة أو علم المعرفة أو علم الحكمة الذي يوصف باللدني والإلهامي والنوراني ونحو ذلك من الأوصاف والنعوت والإشارات التي تعاضدت فيها الأخبار والآثار، وهو أسرار ومكاشفات وإلهامات، ووسيلته مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار، وهو الغيب الذي يتفاوت إمكان الإطلاع عليه بحسب المواهب والنفحات، فقد يكون غيباً بالنسبة لإنسان ولا يكون كذلك بالنسبة لآخر، ولا يستحيل الإطلاع على هذا القسم من الغيب إذا توفرت الأسباب وحصلت الموهبة اللازمة لذلك فيصبح معلوما بعد أن كان مجهولا، فنسبيته إذا بالنسبة إلى الإنسان، أما بالنسبة إلى الله عَزَّ و جَلَّ فالأشياء كلها حاضرة لديه، و الماضي والحال والمستقبل عنده سواسية وهذا العلم إنما يتحصل على وجه الإلهام من الله تعالى كما أشرت آنفا. وقد أطلع الله تبارك وتعالى صفوة خلقه على بعض مغيباته كما ورد في بعض النصوص القرآنية كقول الله عَزَّ وجَلَّ: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومن خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) [الجن: 26 ـ 28] وقوله جل وعلا: (ما كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ما أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 179] . وقوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) [يوسف: 102]. وقوله: )ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون( [آل عمران: 44] وقوله:)وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين( [الأنعام: 75] وقوله عن يوسف عليه السلام: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وأما الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) [يوسف: 41] وقال عنه أيضا: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُون) (يوسف: 47 ـ 49). وقال عن سليمان عليه السلام: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ و قال يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [النمل: 16) وقال عن عيسى عليه السلام: (...وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 49] فما حصل للأنبياء من ذلك كان على وجه المعجزة وما يحصل للأولياء يكون على وجه الكرامة، قال الله تعالى: )كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا( [الإسراء: 20] وقال عز وجل: )يا أيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا( [الأنفال: 29] وقال: )واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم( [البقرة: 282]. وقال جل شأنه: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ) [الحجر: 75] وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن عمل بما علم ورَّثه الله علم ما لم يعلم" [رواه أبو نعيم في الحلية] وقال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" [رواه الترمذي]. وهذا العلم أبهمه الله تعالى تفخيما لأمره وتعظيما لشأنه فقال عز وجل )فأوحى إلى عبده ما أوحى( [النجم: 10] وهو الذي آثر به أولياءه الذين هم ورثة أنبيائه حالا ومآلا وإن لم يدانوهم منزلة ومقاما لأنه لما أغلق باب النبوة والرسالة فتح باب الولاية والفهم عن الله فيما أوحى إلى خاتم أنبيائه في كتابه العزيز. ومن المعلوم أن العلوم كلها من حيث الأصل لدنية ولكن بعضها يتحصل بواسطة التعلم والأخذ عن العلماء والفقهاء وهذا النوع لا بد فيه من البحث مع الجد والمثابرة والاجتهاد وهو الذي يسمى العلم الرسمي الكسبي وهو أمداد اسم الحق الظاهر، ومناطه الدلائل والبراهين وتدخله الموازنة والتعيين لأنه نقلي وعقلي، وبعضها ينفتح في سر القلب المنوّر من غير سبب مألوف من خارج إلا سبب التقوى والإخلاص في العمل؛ إذ التقوى مدعاةٌ للعلم والمعرفة وفي ذلك يقول الإمام الشافعي: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرنــي بــأن العلـم نــور ونور الله لا يوتـي لعاصـي وهذا الأخير لا ميزان لـه لأنه أمداد اسم الحق الباطن ولا يجب فيه التبليغ لأنه ليس من تكاليف الله وأحكامه الشرعية العامة ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بكل مغيب اطلع عليه بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات. وهذا العلم مداره الذوق والوجدان ولهذا يسمى العلم الوهبي لأنه مواهبُ وأسرارٌ وكشوفاتٌ وأذواقٌ ولا ينال بحيلة ولا اكتساب ولا يؤخذ من دفتر ولا كتاب وإنما يفيض من حضرة الكمال بمحض الفضل والنوال، ويورث عن أهله بالصحبة والمحبة والخدمة والصدق لأنه معاني قلبيةٌ وأسرار ملكوتية ونفحات وإمدادات ربانية قدسية تخص العارفين دون الغافلين كما أشار أحد العارفين:
قلوب العارفين لها عـــيون تَرى ما لا يُرى للناظرينـا
وأجنحة تطير بغير ريــش إلى ملكوت رب العالمينـا
ثم إن العلم اللدني نوعان: لدني رحماني ولدني شيطاني، والمحك هو الشرع فما وافقه كان لدنيا إلهيا وما خالفه كان لدنيا شيطانيا.ونتيجة لذلك فعلم التصوف ليس علم التقليد ولا علم الكلام وإنما هو العلم الإلهي أو علم الحكمة الذي يغسل النفوس من وسخ الطبيعة الظلمانية، فالنفس إذا تربّت وعرفت الحكمة حنت واشتاقت إلى عالم الأرواح ومالت عن الشهوات الجسمانية، ثم إن هذا العلم أمره اختصاص إلهي حيث يبلغ العارف به من التقرب إلى الله بأداء المفترضات ونوافل العبادات درجة الشهود القلبي الذي يكشف عن النفس حجاب الوهم وظلمة الحس فتزول الأينية والغيرية ويشاهد الأشياء كلها أنوارا ملكوتية مشاهدة ذوقية يقينية عرفانية تمكينية ففي البخاري أن الخضر قال لموسى: "إن لي علما لا ينبغي أن تعلمه وإن لك علما لا ينبغي أن أعلمه" وهو معنى قول أنس ابن مالك لعثمان ابن عفان أوحي بعد النبي؟ فقال: /لا، ولكن بصيرة وبرهان وفراسة صادقة/ وفي الحديث: "إن يكن في أمتي محدثون فعمر" [أخرجه أحمد] والمحدث الملهم.
والحاصل أن العلم الكسبي وسيلته التعليم الإنساني ودلالة العلماء به على الأمر العام أمرا ونهيا.
والعلم الوهبي وسيلته الكشف والإلهام ودلالة الحكماء العارفين به على التقرب إلى الله تعالى. أو قل: وسيلة الأول التعلم من خارج وهو التحصيل بالحواس، ووسيلة الثاني التعلم من داخل وهو الاشتغال بالفكر. ويشترط في هذا الأخير صقل مرآة القلب وصفاء النفس إذ من أشرقت بدايته أشرقت نهايته. أو قل: الأول دنيوي باعتبار أنه خطاب في عالم الخلق، والثاني: أخروي باعتبار أنه يُعنى بالوقوف مع الحق في العلوم والأعمال والمقامات والأحوال والأقوال والأفعال وسائر الحركات والسكنات والإرادات والخطرات إلى غير ذلك. ولهذا فالعالم يصف الطريق بالنعت والعارف ينعتها باليقين، العالم من أهل الفرق والعارف من أهل الجمع، العالم من أهل عالم الصورة والعارف من أهل عالم الخفي، العالم من أهل عالم الملك والعارف من أهل عالم الملكوت، العالم من أهل عالم الحس والعارف من أهل عالم المعنى، العالم من أهل عالم الكثافة والعارف من أهل عالم اللطافة، العالم يدلك على العمل والعارف يخرجك عن رؤية العمل، العالم يحملك حمل التكليف والعارف يروحك عن التكثيف بشهود التعريف، العالم يدلك على الأسباب والعارف يدلك على مسبب الأسباب، العالم يدلك على شهود الوسائط والعارف يدلك على محرك الوسائط، العالم يحذرك من الوقوف مع الأغيار والعارف ينذرك من الوقوف مع الأنوار، العالم يحذرك من الشرك الجلي والعارف يخلصك من الشرك الخفي، العالم يعرفك بأحكام الله والعارف يعرفك بذات الله، العالم يدلك على العمل لله والعارف يرشدك إلى العمل بالله، العالم يدلك على العمل خوفا وطمعا والعارف يدلك على العمل محبة وشكرا وهكذا دواليك، وكلاهما لا بد منه لأن العالم هو معلم الشريعة والعارف معرف الحقيقة.وقد قسم بعض الصوفية علم التصوف إلى قسمين: - علم معاملة - وعلم مكاشفة
فعلم المعاملة فرض عين وهو النظر في تهذيب النفس وتصفية القلب من الأغيار والأوصاف الذميمة، وعلم المكاشفة نور يقذفه الله في القلب الصافي المتخلق صاحبه بالأخلاق والشمائل المحمدية الكريمة الرفيعة بعد تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة فتحصل له من ذلك النور المعرفة الحقيقية بالله تعالى وتنكشف له الأمور فيراها على ما هي عليه.
والنصوص الشرعية التي تؤصل علم التصوف كثيرة جدا منها ما ذكر سابقا ومنها أيضا حديث البخاري عن أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه قال: "قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم" وحديث مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوي لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها" وحديث مسلم أيضا عن عمر ابن أخطب الأنصاري رضي الله عنه في خطبته صلى الله عليه وسلم من الفجر إلى الغروب وفيه "فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا" وفي الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قال "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك شيئا سيكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به" وفي الصحيحين أيضا "ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي حتى الجنة والنار" ومنها حديث الترمذي عن معاذ ابن جبل رضي الله عنه وفيه قوله صلى الله عليه وسلم "فرأيته عز وجل وضع كفه بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت" ومنها حديث أبي يعلى والطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال "لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما". ولا شك ولا ريب بأن سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة، قال الله تعالى: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين" [المائدة: 67] وذكر الإمام المفسر الصاوي في حاشيته على الجلالين في تفسير هذه الآية ما نصه: /واعلم أن ما أوحي إليه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: ما أمر بتبليغه وهو القرآن والأحكام المتعلقة بالخلق عموما وقد بلغه ولم يزد عليه حرفا ولو جاز عليه الكتم لكتم آيات العتاب الصادرة له من الله كآية"عبس وتولى" وآية "ما كان لنبيء أن يكون له أسرى" وسورة "تبت يدى أبي لهب" ولفظ قُلْ من (قل يا أيها الكافرون( و)قل هو الله أحد( و)قل أعوذ برب الفلق(و)قل أعوذ برب الناس( وقد شهد الله له بتمام التبليغ حيث أنزل قبيل وفاته "اليوم أكملت لكم دينكم" وورد أنه قال لعزرائيل يوم قبض روحه أقبض فقد بلغت، وما أمر بكتمه فقد كتمه ولم يبلغ منه حرفا وهو جميع الأسرار التي لا تليق بالأمة، وما خير في تبليغه وكتمه فقد كتم البعض وبلغ البعض وهو الأسرار التي تليق بالأمة.
وفي تفسير روح البيان عند قوله تعالى"أفتمارونه على ما يرى" [النجم: 12] لا شك أن ما أوحي إليه عليه الصلاة والسلام تلك الليلة على أقسام: قسم أداه إلى الكل وهو الأحكام والشرائع، وقسم أداه للخواص وهو الحقائق ونتائج العلوم الذوقية، وقسم آخرُ بقي معه لكونه مما خصه الله به وهو السر الذي بينه وبين الله المشار إليه بقوله (لي وقت مع الله...إلخ) فإنه تجلّ مقصوص وسر مكتوم لا يفشى وهكذا كل ورثته فإن لهم نصيبا من هذا المقام.وأخرج بن جرير الطبري في تفسيره عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت ربي في أحسن صورة..." إلى أن قال: "فقلت يا رب إنك اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت موسى تكليما وفعلت وفعلت فقلت ألم أشرح لك صدرك ألم أضع عنك وزرك ألم أفعل بك ألم أفعل بك فأفضى إلي بـأشياء لم يؤذن لي أن أحدثكموها فذلك قوله تعالى:"ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لو أني ذكرت لكم ما أعلم من تفسير قوله تعالى :"الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن" لرجمتموني أو لقلتم إني كافر.وفي الإبريز عن الشيخ عبد العزيز الدباغ: /علم الباطن بمثابة من كتب تسعة وتسعين سطرا بالذهب وعلم الظاهر من كتب السطر المكمل المائة بالمداد ومع ذلك إذا لم يكن ذلك السطر الأسود مع سطور الذهب المذكورة لم تفد شيئا وقل أن يسلم صاحبها/.
ولعل مرد تسميته بعلم الباطن كونه مقتضى تجلي اسم الحق الباطن أو لكونه باطنا عن غير أهله من أرباب الأفكار وذوي النظر والاستدلال لا أنه نسبة إلى الفرقة الباطنية المعروفة، وذلك أن هذا العلم إنما يحصل بالإلهام بعد تفريغ القلب من الشواغل والأغيار فهذه هي طريقته المثلى.وإذا تقرر ذلك ندرك أن علم التصوف عبارة عن العلوم الوهبية والمعارف الإلهية التي ورثها الأولياء المتقون والعلماء العاملون أرباب البصائر والقلوب وهي التي يعبرون عنها بالهواتف الربانية والواردات الإلهية، وهي نور عرفاني يقيني يقذفه الحق عز وجل بتجليه في قلوب عباده المقربين يفرقون به بين الحق والباطل.
واختلف المحققون من أهله في جواز بذله للغير أم لا؟ فسيد الطائفة الجنيد السالك يقول بجواز بذله لغير أهله حيث كان يلقي الحقائق على رؤوس الأشهاد لأن هذا العلم في نظره أحمى جانبا من أن يصل إلى غير أهله؛ وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي يفيض فيه ويقول: /هلا رجل يقيد عنا هذه الأسرار/. وكان يحضر مجلسه أكابر وقته كعز الدين بن عبد السلام وابن الحاجب وابن عصفور وابن دقيق العيد وعبد العظيم المنذري وكان العز إذا سمع كلامه يقول: /هذا كلام قريب عهد بالله/. بينما الثوري والجيلاني والغزالي وغيرهم كثير يرون عدم جواز بذله لغير أهله لأن من تأهّل له يقدره حق قدره ويضعه في محله ومن ليس له بأهل فقد يضيعه يقول الإمام الغزالي: "غزلت لهم غزلا رقيقا فلم أجد لغزلي نساجا فكسرت مغزلي" وقال بعضهم:" يرخص للعارف الماهر إلقاء الحقائق لمن لا يعرفها بعبارة رقيقة وإشارة لطيفة وغزل رقيق بحيث لا يأخذ السامع منها إلا قدرَ ما يستسيغه لأن العقول تقصر عن إدراك تلك اللطائف والعلوم التي شرطها الأسمى صفاء القلوب ونقاؤها وطهارتها وتزكيتها".
ومجمل قول الأئمة في هذا العلم أن ما اشتمل منه على النظر في أحوال القلب وتطهيره من الأوصاف المذمومة وتحْليته بالأخلاق المحمودة وتصفية الأعمال وتصحيح الأحوال ونحو ذلك من المسالك التي لا يسع أحدا إنكارُها ولا الطعن فيها فهو جائز وما سوى ذلك من أمور الحقائق وقضايا الفهوم والمعارف الخاصة العميقة المتعلقة بالمكاشفة فلا يجوز إفشاؤه ولا بذله لغير أهله فقد قيل: /لا تعطي الحكمة لغير أهلها فتظلِمَها ولا تمنعْها من أهلها فتظلمَهم/. وقيل أيضا: /لا تعلق الجواهر في أعناق الخنازير فإن الحكمة خير من الجوهرة فقد قال الشاعر:فما في مضمر القلب والحشى من السر يعطى للرجال الأجانب ولكنني من كان أهلا أفـدتـــه علوما بها يسمى لأعلى المراتب وكان الجنيد يكثر من إنشاد هذين البيتين: علم التصوف علم ليس يعرفـــه إلا أخو فطنة بالحـق موصــــــوف وكيف يعرف شيئا ليس يشهــده وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف.
وكان الشيخ سيدي أحمد التجاني يستحسن قول القائل: السر عندي في بيت له غلـــق ضاعت مفاتحه والباب مقفول لا يكتم السر إلا كل ذي ثقـــة والسر عند لئام الناس مبــذول.وقال يحيى ابن معاذ: /أغرف لكل أحد من نَهَره واسقه بكأسه وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار/. وقال آخر: /كِلْ لكل بمكيال عقله وزِنْ له بميزان علمه.
فقد كان العارفون يقفون في هذا البحر على ساحل الإشارات لأن إفشاء سر الربوبية كفر.
وإذا فأهل هذا العلم يغرفون من فيض بحر إلهي ومدد رباني لا يوصف بالعبارة وإنما تقربه الإشارة، ومن معاني علومهم ما تدركه العقول ويطابق المعقول والمنقول ومنها ما لا تفهمه العقول لأنه وراء طورها فتوكل إلى أربابها ولا تنكر عليهم بمجرد سماعها وذلك أن هذا العلم الروحي القلبي ذاتي المنهج فرداني التوجه وأهله أرباب أحوال لا أرباب أقوال، ومعرفة حقائقه من جهة الذوق والوجدان لا من جهة الدليل والبرهان، لأنها معانِي منطبعةٌ في الأرواح من يوم الميثاق، فيَنبثق في الصدر شعاعها وتنكشف للقلب سرائرها وبالتالي فهي أذواق شهودية وأسرار ربوبية لا يفهمها إلا أربابها وإفشاؤها لمن لا يفهمها ولا يعلمها جهل بقدرها فهي أمانات عند من يفهم عن الله ويجب كتمانها عن غير أهلها ولا يحل ذكرها لغير المتأهلين لها قال تعالى: "ولا تأتوا السفهاء أموالكم"[النساء: 5] فكتم الأسرار من شأن الأخيار وهتك حرمات الأسرار حال الأشرار أهلِ النار والعار فقد قال الروذابادي: /علمنا هذا إشارة فإذا صار عبارة خفي/ وقال الإمام الغزالي: "قد تضر الحقائق بأقوام كما يتضرر الجُعَل بالورد والمسك".
وكما تقدم فهذا العلم لا يغاير العلم الشرعي الظاهر الذي يلزم المكلف في أمر دينه عبادة ومعاملة لأنه ضياء ونور وهداية ورشد بل هو ثمرته وحكمته ولبه وجوهره حيث يشرق ويتجلى على قلب العبد ويسطع عليه عند انحسار وانقشاع سحائب الحجب الظلمانية الكثيفة قال تعالى: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا[الإسراء: 36] فهو مطلوب لذاته لأنه يتوصل به إلى سعادة الدنيا والآخرة ويُنال بقدر الرزق لا بقدر الجهد مع عدم الغنى عن المجاهدة لأن المجاهدة مفتاح الهداية لا مفتاح لها سواها. قال تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين"[العنكبوت: 69]. ومن هنا كان سبيل العلم الشرعي العام هو الدرس والنظر العقلي ووسيلته الأبصار، وسبيل علم الحقائق الخاص ارتفاع الريب وحصول اليقين ووسيلته البصائر، ولأجل ذلك سمي هذا الأخير علم القلوب لأن القلب هو موضع المعرفة، وعلم الحقائق للدلالة على أن صاحبه يجد الحقائق الإيمانية التوحيدية، وعلم المكاشفة والأسرار وهي أسرار إلهية وأنوار ومعارفُ ربانية باطنية تنكشف للسالك إلى الله انكشافا وتنقدح له انقداحا إلى غير ذلك من التسميات والألقاب الكثيرة التي اصطلح عليها كعلم الأخلاق وعلم الأحوال وعلم السلوك فكلها إذن تصب في قالب أو بوتقة أحوال النفس السالكة والتغلب على الحس والشهوات؛ ومعناها في جملتها فيضان هذا العلم على العبد من حضرة القدس امتنانا محضا واختصاصا واجتباء "قل إن الفضل بيد الله يوتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم" [آل عمران: 74] "الله يجتبي إليه من يشاء" [الشورى: 13] وقد نوه الله تعالى بشأنه في قولـه: )يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا( [البقرة: 269]، وقال في مقابله: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"[الإسراء: 85] فالحكمة نور في القلب تدرك به الأشياء كما هي عليه يعطيها الحكيم الكريم لمن شاء من عباده وقد جعل بابها مفتوحا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فقال:"والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم"[البقرة: 247] وهي ضالة المؤمن يأخذها ممن سمعها ولا يبالي من أي وعاء خرجت. والحكمة: مصدر من الإحكام الذي هو الإتقان في القول أو الفعل، وهي عبارة عن العلم بأسرار الأشياء وحقائقهما وارتباط الأسباب بمسبباتها واختلف في تحديدها فقيل: الحكمة العلم والعمل، وقيل المعرفة والأمانة، وقيل الكشف والفراسة؛ والحكمة: منها الحكمة الجامعة وهي معرفة علم الحقيقة ومنها الحكمة المنطوقة وهي ما ينتفع به السامع، ومنها الحكمة المسكوتة وهي ما يَدِق عن العوام فهمه، ومنها الحكمة المجهولة وهي ما خفي عن العباد وجهه. قال الله تعالى: (وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكان فضل الله عليك عظيما)[النساء: 113]. وقال: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمُ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 151].وقال: (وَلَقَدَ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَن اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [لقمان: 12]. وقال في حق يوسف عليه السلام: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ءاتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 22]. وقال في وصف داود عليه السلام: (وَءاتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ)[البقرة: 251]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: "اللهم علمه الحكمة" [رواه البخاري]، والفرق بين الحكمة والعلم: أن العلم حده الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، والحكمة هي تمكن حقيقة العلم بالمعلوم.
بيد أن علم الحكمة حيث هو ينقسم إلى قسمين: 
1. علم بالله وهو علم الحكمة البـاطـنة في القلب لأنه علم أحوال القلب وأخلاق النفس وينقسم إلى: مذموم وإلى محمود.
2. علم بأحكام الله وهو علم الشرائع المتعلق بالأحكام الظاهرة وهو ينقسم إلى عبادات ومعاملات وعادات، يقول ابن جزي في القوانين الفقهية: ويتفرع من الكتاب والسنة علمان أصول الدين وفروع الفقه وينخرط التصوف في سلك الفقه لأنه في الحقيقة فقه الباطن كما أن الفقه أحكام الظاهر.
فالأول إذا طريقه الثاني لأن متعلقه معرفة الله من خلال دوائر أسمائه وصفاته وذاته، والثاني ثمرته الأول لأن متعلقه معرفة الحلال والحرام وكلاهما لا بد منه للعبد بطبيعة الحال.وأيضا منه ما هو اكتسابي ومنه ما هو إلهامي وهذا الأخير منه ينقسم إلى: العلم لله، وإلى العلم بالله.*- فالعلم لله يتعلق بعلم المعاملة والسلوك والأحوال والمقامات وحقيقة النظر في تصفية القلب من الأدناس والأرجاس حتى يستنير بسواطع الأنوار والأسرار فتتهذب نفسه من الرذائل والعيوب والنقائص والقبائح التي ذمها الشرع فيتطهر ظاهرا وباطنا من الأوساخ الحسية والمعنوية فيتخلى عن العلائق الجسمانية ويتحلى بالفضائل الروحية فيتصف بالأخلاق الرحمانية تحقيقا لقوله تعالى: )قد أفلح من زكاها( [الشمس: 9] وبالصيانة والطهارة من تلك الأمراض الباطنة الفتاكة التي تصيب النفس والقلب معا ولا تنفك عنهما إلا بالتخلي والتحلي تتلاشى وتضمحل الشواهد والعوائد والعلائق والعوارض وكل ما يتعلق بذلك من أوهام وأعواض وأغراض وأغيار فتزول الأسوار وتُشرِق الأنوار فيتطهر العبد من جنابة الغفلة ويستحق الوصول فهناك يكون التجلي ويحصل العلم لله.*- أما العلم بالله فهو علم الحقائق والتجليات الإلهية وهو إلهام رباني يتحصل عند تزكية النفس ومجاهدتها في ردها عن غيها وجلاء البصيرة وتصفيتها، وبه تحصل المعرفة الحقيقية وتتجلى المعاني الربانية السامية فتنكشف الأستار عن عالم الأنوار فتبدو الحقائق منطبقة في نفس العبد مترائية في مرآة قلبه.وإذا فالعلم لله صاحبه مريد مقرّب والعلم بالله صاحبه مراد محبوب، فالأول ينظر بنور الله والثاني ينظر بالله لأنه انقطع بالكلية عما سواه، والأول مخلص بكسر اللام بمعنى أنه تجرّد عن إرادته في عبادته لربه، والثاني مخلص بفتح اللام بمعنى أن الله اصطفاه واجتباه فحفظ الله ظاهره من المخالفات والمعاصي وسائر الذنوب وطهر باطنه من الوساوس والهواجس بحيث قام بتوفية حقوق الحق والخلق جميعا، والأول مجرِّد، والثاني مفرِّد، لأن التجريد هو تجريد القلب عن كل وصف ذميم وتحليته بكل وصف كريم إذ لا حجاب سوى الصور الكونية المنطبعة على القلب، أما التفريد فهو بالحقائق لأن ما بعد إماطة الحجب عن القلب والسر إلا الوقوف مع الحق، فالتجريد إذا هو إسقاط التدبير مع الله بانقطاعك عما سواه والتفريد غيبتك عن رؤية كل ما سواه، وبالتالي فالتفريد إفراد الله تعالى بالعبادة والتوحيد بحيث يكون العبد بحال العبودية لا بحال نفسه فيتجرد عن الأغيار والأغراض والحظوظ العاجلة والآجلة فيما يفعله ويقوم به بل يؤدي عبادة ربه حسب جهده عبودية وانقيادا ويرى ذلك منة إلهية عليه فيبقى مع الله ولله وبالله وفي الله.وقيل: هناك تجريد الظاهر وهناك تجريد الباطن فتجريد الظاهر هو ترك كل ما يشغل الجوارح عن طاعة الله، وتجريد الباطن هو ترك العلائق النفسانية والعوائق الوهمية، أو ترك العلائق النفسانية والعوائق الوهمية، أو ترك كل ما يشغل القلب عن الحضور مع الله. وعليه فيكون تجريدهما معا هو إفراد القلب والقالب لله تعالى.وبالتالي فهذا العلم بنوعيه هو المسمى علم التصوف وهو طب القلوب والأرواح المتوصل به إلى حياة أبدية تدوم أبد الآباد وهو فرض عين باعتباره علم الإخلاص وآفات النفوس وتمييز لمة الملك من لمة الشيطان ونحو ذلك، ولا تأثير للشيطان على أهله الحقيقيين لأن الله أمّنهم منه بالحفظ كما قال جل ذكره: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) [الحجر: 42] وقال حكاية عن الشيطان نفسه: (لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلَصين) [الحجر: 40]، وهو غاية العمل بالعلم الشرعي الظاهر لأنه زبدته المقصودة منه، وذلك أن العبد إذا حافظ على آداب الشريعة وامتثل واجتنب استضاء قلبه لا محالة بأنوار الإيمان وحقائق التوحيد والعرفان فليس بالتقشف والزهد المفرط ينال تقويم الإرادة وإنما بالصبر على الأوامر والثبات في اليقين قال تعالى:"وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدين"[الأنبياء: 73]. وقد نص أئمة الصوفية على أنه لا يحكم بالحقيقة ظاهرا لأنها علم خاص باطني تخلقي اتصافي، والأنبياء والأولياء فيه ليسوا سواء فمن الأنبياء من بعثه الله ليحكم بالشريعة فقط ويعمل بها ولم يؤذن لـه أن يحكم بالحقيقة ولا أن يعمل بها وإن علمها، والولي التابع للنبي إذا اطلع على حقيقة ما لا يجوز له أن ينفذها بمقتضى الحقيقة وإنما عليه أن ينفذ الحكم الظاهر فقط. ومن حكمه صلى الله عليه وسلم بالحقيقة ما أخرجه الطبراني في معجمه عن زيد ابن ثابت قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا الأعرابي سرق هذا البعير فرَغَا البعيرُ ساعة وأنصَتَ لـه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال للرجل "انصرف عنه فإن البعير شهد عليك أنك كاذب" وفي مستدرك الحاكم من حديث ابن عمر قال: "شُكِيَ أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سرق ناقة فقالت الناقة من خلف الباب والذي بعثك بالكرامة إن هذا ما سرقني ولا ملكني أحد سواه".وقد وردت أحاديث وأخبار أن إبراهيم عليه السلام لما أُرِيَ ملكوت السماوات والأرض أراد أن يعمل بمقتضى الحقيقة فنهاه الله عن ذلك.وقد جمع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بين العلم والعمل والحكم بالشريعة والحقيقة على حد سواء ولم يكن ذلك للأنبياء والرسل قبله بل لم يكن لهم إلا الحكم بأحدهما مع علمهم بهما إذ لا يلزم من عدم البعثة بالشيء عدم العلم به، كما أنه لا يلزم من العلم بالشيء البعثة به. وإذا فحكم الحقيقة مرتبط بالوحي ولا يجوز العمل به إلا للنبي صلى الله عليه وسلم أما حكم الشريعة فهو مرتبط بالأحكام الشرعية الظاهرة المتعلقة بالخلق عموما، والعلم بالحقيقة دون الحكم بها من خصائص الأمة المحمدية دون سائر الأمم الأخرى فمن الممكن أن يلهم الله تعالى أي مؤمن فيصير عارفا به بمقتضى ذلك؛ أما العلم والعمل والحكم بها فلم يجتمع ذلك كله إلا للنبي صلى الله عليه وسلم وحده ومن هنا جاءت قصة موسى والخضر في النص المحكم لاستخلاص الدروس والعبر فموسى عليه السلام لم يكن مرسلا للخضر كما صرح به القسطلاني وغيره وتعلمه على الخضر لا ينافي رسالته وكونه صاحب شريعة بل هو أعلم من الخضر فيما بعث به من أصول الدين وفروعه، وقد راعى عليه السلام في التعلم على الخضر غاية التواضع والأدب فاستجهل نفسه واستأذن أن يكون تابعا له على أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه به من عجائب العلوم: (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا) [الكهف: 65].
ونلاحظ أنه عبر بكلمة التبعية ولم يعبر بكلمة الصحبة أو التلمذة أو غير ذلك من العبارات التي تشير إلى شيء من التقارب المعنوي وهو إن دل على شيء فإنما يدل على علو همة موسى عليه السلام وحرصه على تلقي هذا العلم الخاص الذي لا بد فيه من هضم النفس؛ وعناصر قصة تلقي موسى عليه السلام هذا العلم اللدني من الخضر عليه السلام وحيثياتها الشائكة عند البعض من الناس تبرز بجلاء ووضوح عظمة هذا العلم ومكانته ومدى ما يحاط به من السرية التامة ومخالفته من حيث الصورة لا من حيث الحقيقة ومن حيث الظاهر لا من حيث الباطن لعلم الأحكام الظاهرة بدليل تراجع موسى في نهاية المطاف عن كل الاعتراضات السابقة وإقراره بمدى شرعية وأحقية ما اعترض عليه سلفا بقوله: (لقد جئت شيئا إمرا) [الكهف: 71] (لقد جئت شيئا نكرا) [الكهف: 74] فالمشرّع معصوم ولا يقر الباطل أبدا ولكن الاعتراضات جاءت بحسب ما عنده من ظاهر شرعه وإن كان العمل مستقيما في باطن الأمر، فقد قال المشايخ الكرام إن الذي فعله الخضر ليس فيه ما يناقض الشرع ولكن موسى بادر بالإنكار بمقتضى الظاهر فقط، فمثلا دفع الظالم عن غصب السفينة بنقض لوح من ألواحها ثم إعادته بعد تركه أي الغاصب لها جائز شرعا وعقلا. وكذلك إقامة الجدار هو الآخر ذكروا أنه من باب مقابلة الإساءة بالإحسان. أما قتله للغلام فقد قالوا لعله كان له وجه في شريعة موسى. هذا ولقد كان الخضر يعامل موسى -مع جلالة قدره- بقسوة شديدة لا يمكن للإنسان في هذا الزمان أن يتحملها قطعا نظرا لضعف الهمم وإعراض القلوب عن الله تعالى في عصرنا الحاضر عصر تفوق المادة على الروح (قال إنك لا تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط بع خبرا) [الكهف: 67- 68] وكان موسى رغم تلك المعاملة القاسية جدا يعامل ملهمه الروحي بأدب واحترام: (قال ستجدي إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا) [الكهف: 69] فيجيبه الخضر (فإن اتبعتني فلا تسألني عن.شيء حتى أحدث لك منه ذكرا) [الكهف: 70] وكل أحد يعلم أن موسى أكرم وأفضل عند الله من الخضر بدرجات كثيرة لا حصر لها ولا مجال فيها للكلام أبدا لأنها تُعلم من الدين بالضرورة، كما أنه من المعلوم أنه لا يحتاج إلى علمه اللدني في شرعه المنزل عليه وإنما هي مزية خص بها الله عبده الخضر عليه السلام (وعلمناه من لدنا علما) غير أن ذلك ليس نقصا في حق موسى ولا انتقاصا من قدره عليه الصلاة والسلام إذ المزية - كما قال الأصوليون - لا تقتضي التفضيل لأن التفضيل من الله لا بالمزايا. وقد كان الإمام النووي رضي الله عنه يقول: /إن الله أعطى أولياءه الكرامات التي هي فرع المعجزات فلا بدع أن يعطيهم من العبارات ما يعجز عنه فحول العلماء فضلا عن غيرهم لأنهم يستمدون من مدد الله تعالى ورسوله )فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين...( خرقوا الله من أنفسهم العوائد فخرقت لهم العوائد فهم المعبرون عن جلال الله بإذنه والمحفوظون بعناية الله وعينه/، وقال حجة الإسلام ومحيي علوم الدين الإمام الغزالي رضي الله عنه:"من لم يكن له نصيب من علم القوم أخاف عليه سوء الخاتمة وأدنى نصيب منه التصديق به والتسليم لأهله وأقل عقوبة من ينكره أن لا يرزق منه شيء"وقال أيضا: /كنا ننكر على القوم أمورا حتى وجدنا الحق معهم قال تعالى: "بل كذبوابما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله..." وقال: "وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم". وقال أبو يزيد: من لم يكن لـه أستاذ فإمامه الشيطان. وقال أبو الحسن الشاذلي: /تسليم طريقتنا ولاية واعتقادها عناية/. وقال غيره: /التسليم ولاية والاعتقاد عناية والانتقاد جناية فإن عرفت فاتبع وإن جهلت فسلم/. 
واستأذن الشيخ أحمد بن المبارك شيخه عبد العزيز الدباغ في الإنكار على الأولياء بميزان الشريعة فقال لـه: /أخاف أن لا تكون عندك الصنوج كلها التي يوزن بها وإذا كان عندك بعض الصنوج دون بعض فلا يصح ميزانك/. وقال الإمام الشعراني: /أخذ علينا العهدُ أن لا نمكن أحدا من إخواننا يبادر إلى الإنكار على من خالف نقل بعض العلماء إلا إن أحاط بجميع طرق الشريعة، وقال أيضا: /أخذ علينا العهد أن لا نكذب الصالحين إذا أخبرونا بشيء تحيله عقولنا إلا إذا عارض نصا شرعيا وذلك لأن غاية الواحد منهم أن يخبرنا أن القدرة الإلهية فعلت ممكنا لا غير. وقال العلامة محمد العاقب ابن مياب: /إن الأولياء يجب التسليم لهم فيما يدعون ويذكرون مما لم تدركه عقول أهل زمانهم وتصديقهم فيما تدركه ولا يتعرض لهم في شيء ولا يظن بهم ما يوهم محظورا من مقالاتهم بل توكل إلى العلم الإلهي ويلتمس لهم أحسن المخارج والأصل في ذلك أن الكلام المقدس الذي يخرج من محل التقديس [أي التطهير] بحيث لا سبيل للشيطان على صاحبه ولا يظن به إلا الخير فيسلمه لصاحبه قياسا على متشابه السنة أو يحمل المحامل اللائقة بقدرهم الشريف ومنصبهم الرفيع وليس يَعترض عليهم بمقتضى عقله الفاتر ودليله القاصر إلا محجوب عن الأمور الغيبية مطرود عن الحضرة القدسية وليس للعقل مجال في شيء من ذلك.وكان إمام الحرمين يقول: /لو قيل لنا فصلوا لنا ما يقتضي التكفير ويؤدي إلى التضليل من عبارات القوم لقلنا هذا طمع في غير مطْمَع كلام يمتد من تيار التوحيد/.
ويقول الشيخ محمد اليدالي في الخاتمة عازيا للمواهب القدوسية: /مذاهب الصوفية [أي طرقهم] مذهب أهل القرآن والحديث وعلومهم مكارم الأخلاق التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتممها وعامة الخلق مطلوبون بها/. قلت: ومن شرف هذا العلم كون الإمام الشافعي رضي الله عنه كان يجلس كالطفل بين يدي شيبان الراعي ويسأله كما يسأل المتعلم فيقال لـه مثلك يسأل هذا البدوي فيقول إن هذا وفق لما أغفلناه، كما كان الإمام أحمد بن حنبل ويحي ابن معين يختلفان إلى معروف الكرخي ويسألانه ولم يكن في علم الظاهر بمنزلتهما. وإنما كان صاحب علم التصوف كذلك لأنه مقرب من حضرة الله عز وجل بخصوصية هذا العلم الإلهي الرفيع.وعلى أساس ذلك قال الإمام أبو الحسن الشاذلي: /من مات ولم يتوغل في علمنا هذا مات مصرا على الكبائر وهو لا يشعر/. وقال الجنيد السالك: /لو نعلم أن تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعينا إليه/. وقال الشيخ الصقلي في كتابه أنوار القلوب في العلم الموهوب: /وكل من صدق بهذا العلم فهو من الخاصة وكل من فهمه فهو من خاصة الخاصة وكل من عبر عنه وتكلم فيه فهو النجم الذي لا يدرك والبحر الذي لا ينزف/.وقال آخر: /إذا رأيت من فتح له في التصديق بهذا الطريق فبشره وإذا رأيت من فتح له في الفهم فاغتبطه وإذا رأيت من فتح لـه في النطق فيه فعظمه وإذا رأيت منتقدا عليه ففر منه فرارك من الأسد واهجره/. 
وقال بعضهم: أول الطريق تصديق ووسطه توفيق وآخره تحقيق فمن لا تصديق له لا توفيق له ومن لا توفيق له لا وصول له لعين التحقيق. وقال الشيخ الأكبر ابن عربي قدس الله سره: من العلوم ما يغيب عندها كل متكلم على البسيطة بل كل صاحب نظر وبرهان إذ أنها ليست له لأنها وراء النظر العقلي/. وفي خاتمة التصوف: /علم التصوف أشرف العلوم لأن شرف العلم بشرف متعلقه ومتعلق علم التصوف أشرف المتعلقات إذ هو دال بأوله على خشية الله تعالى التي هي نتيجة معرفته ومقدَّمة اتباع أمره وبأوسطه على معاملته وإحكام عبوديته وبآخره على معرفته والانقطاع إليه والتبري مما سواه حتى من وجود العبد وموجوده ولأن نسبته من الدين نسبة الروح من الجسد لأنه مقام الإحسان الذي هو أن تعبد الله كأنك تراه الحديث، لأن معانيَ صدق التوجه لهذا الأصل راجعة وعليه دائرة كما دار الفقه على الإسلام والأصول على مقام الإيمان فالتصوف أحد أجزاء الدين الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام ليتعلمه الصحابة رضي الله عنهم/. على أنه ليس القلقلة باللسان وإنما هو أذواق ووجدان ولا يؤخذ من الأوراق وإنما يؤخذ من أهل الأذواق وليس ينال بالقيل والقال وإنما يؤخذ من خدمة الرجال وصحبة أهل الكمال وكله مواهب قدسية ونفحات إلهية مستمدة من الأنوار الربانية التي مرجعها ومردها العمل بهدي الكتاب والسنة كما قال ابن عجيبة: /التصوف مستمد من الكتاب والسنة وإلهامات الصالحين وفتوحات العارفين/ يقول أحدهم:بني التصوف ذووا الأفهام على الكتاب السنة والإلهام، ويقول شيخ الإسلام الشيخ ابراهيم إنياس: /العارفون أذواقهم مختلفة وإشاراتهم إلى شيء واحد ومع ذلك إذا جلس العارفان يتذاكران في المعارف فكلٌّ يُكشف له عن حضرة الغيب ما لا يكشف لغيره وذلك ببركة اجتماع نورهما/. وفي هذا المضمار يقول الشيخ زروق محتسب الطائفة: /نسبة التصوف من الدين نسبة الروح من الجسد لأنه مقام الإحسان الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل "أن تعبد الله كأنك تراه" ويقول الإمام السيوطي: "نسبة التصوف من العلوم كعلم البيان مع النحو يعني أنه كمال فيها ومحسن لها". ويقول محي الدين ابن عربي: /اعلم أنه ما ثم هناك دليل يرد طريق الصوفية ولا قادح يقدح فيها لا شرعا ولا عقلا وإنما يطعن فيها من طعن بالجهل/.وعموما فعلم التصوف هو مطلع الأنوار ومجلى الأسرار ولا يمكن التعبير عنه ولا يعرفه إلا أهله (وقليل ما هم) [ص: 13].
يقول الشيخ أبو نصر الطوسي: أنكرت جماعة من العلماء أن يكون في علم الشريعة تخصيص ولا خلاف بين أهل العلم أن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان مخصوصا بنوع من العلم كما كان حذيفة مخصوصا بعلم أسماء المنافقين كان قد أسره إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان يسأله عمر رضي الله عنه ويقول هل أنا مسلم؟. وعن الإمام علي كرم الله وجهه ورضي الله أنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين بابا من العلم لم يعلم ذلك أحدا غيري. وقال إمام المالكية في زمانه الشيخ زروق في تأسيس القواعد: /الخواص ثابتة في الأقوال والأفعال والأعيان وأعظمها خواص الأذكار إذ ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله وقد جعل الأشياء كالأشربة والمعاجن في منافعها لكل ما يخصه فلزم مراعاة العام في العموم وفي الخاص/. وقال النحوي الشهير محمد بن مالك في التسهيل: /وإذا كانت العلوم منحا إلهية ومواهبُ اختصاصيةٌ فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين/.وقد قال الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا" والفرقان ذكر أنه نور يضعه الله في صدور المؤمنين المتقين يفرقون به بين الحق والباطل ولا يزال يتزايد بتزايد التقوى حتى يبلغ إلى الكشف والإطلاع على الأسرار التي منّ الله بها على خواصه من الأولياء المقربين وسترها عن غيرهم من الجلامدة الغافلين الذين حجبت الظلمات نفوسهم كما قال تعالى: )زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب( [آل عمران: 14] ومن ذلك ما ذكروه في تفسير قولـه تعالى: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"[يونس: 63] من أن البشرى هي الكرامات والفتوح التي يكرم بها الحق عز وجل أهل الإخلاص والتمكين من أهل ولاية الله الصادقين. ومن هنا قال مالك رحمه الله: /ليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو نور يضعه الله في القلب/. وذلك مصداق قول الله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين) [الزمر: 22] وقوله: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فماله من هاد) [الزمر: 23] ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه من سؤال النور فكان يقول: "اللهم اجعل في قلبي نورا وفي لساني نورا واجعل في سمعي نورا واجعل في بصري نورا واجعل من خلفي نورا ومن أمامي نورا واجعل من فوقي نورا ومن تحتي نورا اللهم أعطني نورا". [رواه مسلم] وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: /المؤمن ينظر بنور الله من وراء ستر رقيق/ وفي الحديث: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله". وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "إن النور إذا دخل الصدر انفسح فقيل: يا رسول الله هل لذلك من علم يعرف؟ قال: "نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله).[رواه الحاكم في المستدرك

بقلم : المرابط بن عبد الرحمن _ باحث في العلوم الشرعية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية