إن الجهل بجغرافية النفس الإنسانية يوقعنا في متاهات سلوكية، تحجب عنا أنوار الكمالات الأخلاقية، فلا نلتفت إلى حقيقة التكليف السلوكي، وهو ما سماه الشاطبي بفقه الأوصاف الباطنة، وفقه الأوصاف الحميدة، يقول الشاطبي –رحمه الله- :( ومن هذا الملمح فقه الأوصاف الباطنة كلها أو أكثرها من الكبر، والحسد، وحب الدنيا، والجاه، وما ينشأ عنها من آفات اللسان، وما ذكره الغزالي في ربع المهلكات وغيره،... وكذلك فقه الأوصاف الحميدة، كالعلم، والتفكر، والاعتبار، واليقين، والمحبة، والخوف، والرجاء وأشباهها مما هو نتيجة عمل.)
فلا ندرك من الفعل السلوكي سوابقه وقرائنه ولواحقه، ولا نحيط بمراتبه الدنيا والعليا،ولا نتبين أثره في سلمية الأحكام الشرعية والأخلاقية، ولا نضبط علاقات التساند والتكامل التي يفرزها تراكم القيم السلوكية، ولا نستحضر متغيرات الزمان والمكان.
وإذا كان السلوك الحي هو ما كان يحمل دلالة تعبدية، فإن الكلام عنه يستدعي تحديد بعض خصائصه.
ومن هذه الخصائص:
- أن هذا السلوك يكون صاحبه موصولا بأسباب الدين، أي أن صلة صاحبه بالله لا تنقطع، فهو دائم السلوك إلى الله، يعبر من الأكوان إلى المكون، ويراعي حقوق الله في كل شيء، ولا يلتفت إلى الحظوظ ، فسلوكه جامع، إذ طرفه الأدنى موصول بالإنسان( أدب سلوك مع الخلق)-، وطرفه الأعلى موصول بالإله،( أدب سلوك مع الحق).
ويترتب على هذه الصلة:
1- أن صاحبها يكون سلوكه كونيا( عالميا): لأنه مأخوذ من الأصول الأخلاقية الدينية، ومبثوت بالخلقة في فطرته، ولا تعمل التربية الروحية إلا على تنمية ما يختزنه من قيم روحية، وكمالات أخلاقية، ولذلك فسلوكه طبيعي، وليس صناعيا، وسلوكه سلوك عمق، وليس سلوك سطح، وسلوك يقظة وليس سلوك غفلة.
- أن منفعة هذا السلوك تعود بالصلاح على الإنسانية، إذ هو سلوك يبتغي صاحبه التعرف على الحق، والأدب مع الخلق، فهو يرى في الآخر مظهرا من مظاهر تجلي الحكمة الإلهية في الخلق، فيقبل على أسباب التواصل والتعاقل معهم، ومحو كل الآفات التي تحول دون التواصل معهم، فلا يرى لنفسه مزية عليهم ، يقول الحكيم الترمذي:( ما استصغرت أحدا من المسلمين إلا وجدت نقصا في معرفتي)، فقلبه يتسع لكل البشر،لا يبالي بالفروق بين الأجناس ولا بين الأعراق ولا بين المواطن، إلا ما كان منها مخالفا لمقتضى التقرب إلى مقصوده الأسمى.
2- أن صاحبه يكون سلوكه نموذجيا: ذلك أن التغيير الذي يحدث في سلوك الفرد يتوجه إلى الأصل، وهو الهوية الأخلاقية للإنسان، وذلك لاستنادها إلى المبدأ التأنيسي الذي يأخذ بالمقتضيات الأخلاقية من أجل الإصلاح والتغيير،والمساهمة في تحصيل اليقظة السلوكية، والتخلق الأكمل، والتحقق التام، إذ ( الشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق).
فالممارسة السلوكية لمكارم الأخلاق تتنزل في أعلى رتبة سلم المصالح الضرورية،فلا سلوك بدون قيم روحية، ولاقيم روحية بدون دين، والسلوك أبلغ في الدلالة على التوجه الأخلاقي الذي تلابس فيه القيم الروحية سلوك الفرد ظاهرا وباطنا، فيتحقق بها على الوجه الأكمل ( سلوك القيم الحسنى).
وعلى هذا الأساس تكون درجة السلوك بحسب درجة علاقة الفرد بالاشتغال الشرعي، وبحسب رتبته في التحقق الوجداني بالخطاب الشرعي، فالمومن يشغله الثناء على الله عن أن يكون لنفسه شاكرا، وتشغله حقوق الله عن أن يكون لحظوظه ذاكرا.
الدكتور عبد الله معصر