اليقين هو من الإيمان منزلة الروح من الجسد . وبه تفاضل العارفون . وفيه تنافس المتنافسون . وإليه شمر العاملون . وعمل القوم إنما كان عليه . وإشاراتهم كلها إليه . وإذا تزوج الصبر باليقين : ولد بينهما حصول الإمامة في الدين . قال الله تعالى ، وبقوله : يهتدي المهتدون وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون .
فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح . وهو حقيقة الصديقية . وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره .
وروى خالد بن يزيد عن السفيانين عن التيمي عن خيثمة عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا ترضين أحدا بسخط الله . ولا تحمدن أحدا على فضل الله ، ولا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله . فإن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص . ولا يرده عنك كراهية كاره . وإن الله بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في الرضا واليقين ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط .
ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا . وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط ، وهم وغم . فامتلأ محبة لله . وخوفا منه ورضا به ، وشكرا له ، وتوكلا عليه ، وإنابة إليه . فهو مادة جميع المقامات والحامل لها.
وعند القوم : اليقين لا يساكن قلبا فيه سكون إلى غير الله .
وقال الجنيد : اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ، ولا يتغير في القلب .
وقال ابن عطاء : على قدر قربهم من التقوى أدركوا من اليقين .
وقيل : اليقين هو المكاشفة . وهو على ثلاثة أوجه : مكاشفة في الأخبار . ومكاشفة بإظهار القدرة . ومكاشفة القلوب بحقائق الإيمان .
ومراد القوم بالمكاشفة : ظهور الشيء للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين . فلا يبقى معك شك ولا ريب أصلا . وهذا نهاية الإيمان . وهو مقام الإحسان .
وقال السري : اليقين سكونك عند جولان الموارد في صدرك ، لتيقنك أن حركتك فيها لا تنفعك . ولا ترد عنك مقضيا . وقال أبو بكر الوراق : اليقين ملاك القلب . وبه كمال الإيمان . وباليقين عرف الله . بالعقل عقل عن الله .
وقال النهرجوري : إذا استكمل العبد حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة والرخاء عنده مصيبة .
وقال أبو بكر الوراق : اليقين على ثلاثة أوجه : يقين خبر . ويقين دلالة . ويقين مشاهدة.
يريد بيقين الخبر : سكون القلب إلى خبر المخبر وتوثقه به . وبيقين الدلالة : ما هو فوقه . وهو أن يقيم له- مع وثوقه بصدقه - الأدلة الدالة على ما أخبر به .
وهذا كعامة أخبار الإيمان والتوحيد والقرآن . فإنه سبحانه - مع كونه أصدق الصادقين - يقيم لعباده الأدلة والأمثال والبراهين على صدق أخباره . فيحصل لهم اليقين من الوجهين : من جهة الخبر ، ومن جهة الدليل .
فيرتفعون من ذلك إلى الدرجة الثالثة : وهي يقين المكاشفة بحيث يصير المخبر به لقلوبهم كالمرئي لعيونهم . فنسبة الإيمان بالغيب حينئذ إلى القلب : كنسبة المرئي إلى العين . وهذا أعلى أنواع المكاشفة . وهي التي أشار إليها عامر بن عبد قيس في قوله : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا وليس هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من قول علي - كما يظنه من لا علم له بالمنقولات .
وقال بعضهم : رأيت الجنة والنار حقيقة . قيل له : وكيف ؟ قال : رأيتهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورؤيتي لهما بعينيه : آثر عندي من رؤيتي لهما بعيني . فإن بصري قد يطغى ويزيغ ، بخلاف بصره صلى الله عليه وسلم .
واليقين يحمله على الأهوال ، وركوب الأخطار . وهو يأمر بالتقدم دائما . فإن لم يقارنه العلم : حمل على المعاطب .
والعلم يأمر بالتأخر والإحجام . فإن لم يصحبه اليقين قعد بصاحبه عن المكاسب والغنائم . والله أعلم .