الإشارة :إذا أشرق نور اليقين في القلب صارت الأمور المستقبلة حاصلة ، والغائبة حاضرة ، والآجلة عاجلة ، فأهل اليقين الكبير قدّموا ما كان آتيًا ، فحاسبوا أنفسهم قبل أن يُحاسبوا ، ووزنوا أعمالهم قبل أن تُوزن عليهم ، وجازوا الصراط بلسوكهم المنهاج المستقيم ، ودخلوا جنة المعارف قبل حصول جنة الزخارف ، فالموت في حقهم إنما هو انتقال من حال إلى حال ، ومن مقام إلى مقام ، ومن دار الغرور إلى دار الهناء والسرور. وفي الحِكم : " لو أشرق لك نور اليقين في قلبك ، لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها ، ولرأيت محاسن الدنيا قد ظهرت كسفة الفَنَاء عليها ".
قال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه : نور اليقين تتراءىء به حقائق الأمور على ما هي عليه ، فيحق به الحق ، ويبط به الباطل ، والآخرة حق ، والدنيا باطل ، فإذا أشرق نور اليقين في قلب العبد أبصر به الآخرة التي كانت غائبة عنه حاضرة لديه ، حتى كأنها لم تزل ، فكانت أقرب إليه من أن يرتحل إليها ، فحق بذلك حقها عنده ، وأبصر الدنيا الحاضرة لديه ، قد انكسف نورها وأسرع إليها الفناء والذهاب ، فغابت عن نظره بعد أن كانت حاضرة ، فظهر له بطلانها ، حتى كأنها لم تكن ، فيوجب له هذا النظر اليقيني الزهادة في الدنيا والتجافي في زهرتها ، والإقبال على الآخرة ، والتهيؤ لنزول حضرتها ، ووجدان العبد لهذا هو علامة انشراح صدره بذلك النور. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ النورَ إذا دَخَلَ القلبَ انشرحَ له الصَّدرُ وانفسَحَ " ، وقِيلَ يا رَسُولَ اللهِ : هَل لذلكَ مِن عَلامَةٍ يُعرَفُ بِها ؟ قال : " نعَمَ. التَّجَافي عَن دَارِ الغُرُورِ ، والإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ ، والاستِعدَادُ للمَوتِ قَبل نُزُولهِ " أو كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ.