النعيم وإن تنوعت مظاهره ، إنما هو بشهوده واقترابه . والعذاب وإن تنوعت مظاهره ، إنما هو بوجود حجابه، فسبب العذاب وجود الحجاب ، وإتمام النعيم بالنظر إلى وجهه الكريم .
نعيم الروح وعذابها إنما هو بشهود ربها واحتجابها وذلك بعد تخلصها من عالم الأشباح ، وترقيها إلى عالم الأرواح فيكون حينئذ نعيمها روح الوصال وريحان الجمال وعذابها احتجابها عن شهود ذلك الجمال ، وبعدها عن الكبير المتعال وهذا الأمر حاصل في دار الدوام لجيمع الأنام ، لأنه تميز الحق من الباطل وعرف كل واحد مثواه ومستقره فأهل الجنان أحسوا بالرضا والرضوان ، فهم عالمون بقرب الحق منهم ورضاه عنهم لكنهم متفاوتون في العلم فمنهم من يعلم من وراء الرداء ، ومنهم من يعرف داخل الرداء وفى البخارى :" وما بين الناس وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه فى جنة عدن " .
ولا يفهم هذا الرداء إلا أهل الأذواق . وأما أهل النار فأحسوا بالبعد من الواحد القهار ، فتضاعف عذابهم في دار البوار . ولو أن الحق تعالى تجلى لهم بصفة جماله لأنساهم ذلك اليوم عذابه ، ولو أنه تعالى احتجب عن أهل الجنة لضاق عليهم فسيح الجنان ، ولانقلب نعيمهم نقمة وعذاباً .
أما من كان في دار الدنيا عارفاً فلا يحتجب الحق تعالى عنه كما شهده هنا بوسائط أنواره يشهده ثم بلطائف أسراره بل ثم أولى لغلبة المعنى على الحس ، والقدرة على الحكمة . وأما من كان هنا محجوباً فهو ثم أيضاً محجوب . قال تعالى : ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ) .
وللآية تفسيران : ظاهر وباطن ، لكن في دار البقاء يرق الحجاب لرقة الأبدان ولطافتها ، فلذلك صار نعيمهم لا يكمل إلا بشهود القرب فإذا فقدوه تنغص نعيمهم ، لأن في تلك الدار صار الحكم للأرواح وفي هذه الدار الحكم للأشباح ، إلا من ترقى هنا إلى عالم الأرواح فهو من أهل الجنة ، فنعميه نعيم الأرواح ، وهو روح الوصال وشهود الكمال ، فنعيمه بشهود اقترابه ورضوانه فلو زال عنهم شهود القرب أو انقطع عنهم مدد الرضوان ، لضاق عليهم فسيح الجنان . وأما نعيم الأشباح وعذابها : أعني من كان محجوباً بها فإنما هو لموافقة ما يلائم طبعه أو مخالفته ، فإذا جاء ما يلائمه من صحة وعافية وجمال حسي فهو في حقه نعيم ، وإذا جاء ما يخالف طبعه من وجع أو فقد أو منع أو فتنة فهو عذاب في حقه إذ لاحظ له في لذة القرب ومرارة البعد ، فإنما حظه من النعيم نعيم البهائم نعم لو قدرنا أن العادة تخرق له ويتجلى الحق تعالى له في حال عذابه الحسي بصفة جماله ، لنسى ذلك العذاب .
والحاصل : أن كلام الشيخ إنما هو في حق أهل القرب أو الشهود بحيث يجد لذة القرب وحلاوة الشهود ، ويحس بمرارة البعد وضيق الحجاب في هذه الدار وفي تلك الدار ، هذا ما ظهر لي ، وهذا الذي ذكره الشيخ مذوق عند أرباب العشق فكم من عاشق ضرب بمحضر محبوبه فلم يحس بألم الضرب فلما غاب عنه تضرع واستغاث ، فقيل له فى ذلك ؟ فقال : لما حضر من كنت أضرب من أجله غبت عن ألم الضرب ، فلما غاب عني وجدت ألمه . قلت : ولهذا المعنى استلذ العارفون الفاقات ، وأنواع التعرفات وضروب البليات لما ذاقوا في ذلك من إقبال محبوبهم ، ورضا مشهودهم .
وكان بعض الأولياء مجذوماً وهو يدعو للمرضى فيبرءون من حينهم فقيل له لو دعوت الله أن يخفف عنك ، فقال : رأيت رب العزة في النوم ، وهو يقول لي :
أتريد أن أبتليك ببلية أرفع لك بها أعلى الدرجات ؟ قلت : نعم فأصبح مجذوماً .
فانظر هؤلاء السادات لما عرجوا من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح لم يبق لهم نعيم ولا عذاب إلا نعيم الأرواح أو عذابها وأما عذاب الأشباح فقد غابوا عنه ، فكان نعيم هؤلاء وقوت أوراحهم هو ذكر ربهم وشهود نوره أو اقترابه ، حتى صار لهم غذاء لا بقاء لهم إلا به ولا غنى لهم عنه ، ولو فقدوه لفارقت أرواحهم أشباحهم.
والحاصل : أن نعيم الأرواح التي تشاهد محبوبها لا ينقطع عنها فنعيم العارفين لا ينقطع لأن قرب الحق لا ينقطع فمن بعدت نفسه أحس بالعذاب ولزمه الهموم والأحزان والنصب.