آخر الأخبار

جاري التحميل ...

شرعية التفسير الإشاري.

لسنا ننكر أن للتفسير الإشاري سندا شرعيا، ولا ندعى أنه حدث في الدين ابتدعه المتصوفة في تفسير القرآن الكريم فقد أشار إليه القرآن الكريم بقوله: {.. فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} النساء82، وقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} محمد 24 وبيان ذلك- كما يقرره الشاطبي في الموافقات- 2 ص 382،383-: "أن القرآن له ظهر وبطن، فحيث ينعى القرآن على الكفار أنهم لا يكادون يفقهون حديثا يحضهم على التدبر في آياته، لا يريد بذلك أنهم لا يفهمون نفس الكلام أو حضهم على فهم ظاهره، لأن القوم عرب والقرآن لم يخرج عن لغتهم فهم يفهمون ظاهره ولاشك، وإنما أراد بذلك: أنهم لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب، وحضهم على أن يتدبروا في آياته حتى يقفوا على مقصود الله ومراده، وذلك هو الباطن الذي جهلوه ولم يصلوا إليه بعقولهم.
شرعية التفسير الإشاري.
ويقرر الإمام السيوطي وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبه على التفسير الإشاري بقوله في الحديث الذي رواه الغربابي عن الحسن مرسلا "لكل آية ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع " وقد فسر الحديث بتفسيرات عدة، ولم أقف له على أصل صحيح يعتد به فلعل المعنى القريب للحديث ما حكاه ابن النقيب: من أن ظهرها: ما ظهر من معانيه لأهل العلم بالظاهر وبطنها: ما تضمنته من الأسرار التي يطلع الله عليها أرباب الحقائق.

وأقول: أن بعض الصحابة كانت لهم في القرآن أفهام فوق ظاهر النص، هي في الواقع إشارات قد لا يفهما الكثير منهم، فمن ذلك مثلا:
ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: أنه من حيث علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم، قال: ماتقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له: قال إذا جاء نصر الله والفتح، فذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول"1.

فبعض الصحابة لم يفهم من السورة أكثر من معناها الظاهر، أما ابن عباس وعمر- رضي الله عنهم- فقد فهما معنى آخر وراء الظاهر هو المعنى الباطن الذي تدل عليه السورة بطريق الإشارة.

وأيضا ما ورد من أنه لما نزل قوله تعالى في الآية (12) من سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} ، فرح الصحابة وبكى عمر رضي الله تعالى عنه وقال: ما بعد الكمال إلا النقص مستشعرا نعيه عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج ابن أبى شيبة: أن عمر رضي الله عنه لما نزلت الآية بكى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك؟ " قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا كمل، فانه لم يكمل شيء قط إلا نقص، فقال عليه الصلاة والسلام: "صدقت" .

فعمر- رضي الله عنه- أدرك المعنى الإشاري، وهو نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقره النبي على فهمه هذا. وأما باقي الصحابة فقد فرحوا بنزول الآية، لأنهم أيفهموا أكثر من المعنى الظاهر لها.

هذه الأدلة مجتمعة تعطينا أن القرآن الكريم له ظهر وبطن.. ظهر يفهمه كل من يعرف اللسان العربي، وبطن يفهمه أصحاب المواهب وأرباب البصائر، غير أن المعاني الباطنية للقرآن لا تقف عند الحد الذي تصل إليه مداركنا القاصرة، بل هي أمر فوق ما نظن وأعظم مما نتصور، ولقد فهم ابن مسعود رضي الله عنه: أن في فهم معاني القرآن مجالا رحبا ومتسعا بالغا فقال: "من أراد علم الأولين والآخرين فَلْيُثَوِّرِ (1) القرآن" وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} سورة الأنعام "28".

'1) أي لينقر عنه ويفكر في معانيه وتفسيره وقراءته.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية