(قطع السائرين له ، والواصلين إليه ، عن رؤية أعمالهم ، وشهود أحوالهم . أما السائرون فلأنهم لم يتحققوا الصدق مع الله فيها ، وأما الواصلون - فلأنه غيبهم بشهوده عنها) .
قلت : قطع : هنا بمعنى غيب ، ولو عبر به لكان أظهر وأسهل لما في التعبير بالقطع من الشؤمة ، وفي عبارته شيء من النقص ، فلو قال : غيب السائرين له عن رؤية أعمالهم وأحوالهم والواصلين إليه عن رؤية وجودهم ، أما السائرون فلأنهم لم يتحققوا فيها الصدق مع اللّه ، وأما الواصلون فلأنهم لم يشهدوا مع اللّه سواه ،يعني أن الحق تعالى غيب السائرين له والواصلين إليه ، عن رؤية أعمالهم الظاهرة وشهود أحوالهم الباطنية أما السائرون ، فلأنهم يتهمون أنفسهم على الدوام فمهما صدر منهم إحسان ولاح لهم يقظة أو وجدان رأوها في غاية الخلل والنقصان ، فاستحيوا من اللّه أن يعتمدوا عليها أو يعتدوا بها ، فغابوا عن أعمالهم وأحوالهم واعتمدوا على فضل ربهم ، فالصدق هو لبّ الإخلاص وسره ، أي لم يتحققوا بسر الإخلاص فيها فلم يروها ولم يركنوا إليها.
سئل بعض العارفين : ما علامة قبول العمل ؟ قال : نسيانك إياه وانقطاع نظرك عنه بالكلية بدلالة قوله تعالى : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [ فاطر : 10 ] .
وقال زين العابدين رضي اللّه تعالى عنه : كل شيء من أفعالك إذا اتصلت به رؤيتك ، فذلك دليل على أنه لم يقبل لأن المقبول مرفوع مغيب عنك ، وما انقطعت عنه رؤيتك فذاك دليل على القبول انتهى .
وأما الواصلون فلأنهم فانون عن أنفسهم غائبون في شهود معبودهم ، فحركاتهم وسكناتهم كلها باللّه ومن اللّه وإلى اللّه ، إذ محال أن تشهده وتشهد معه سواه ، فإن ظهرت عليهم طاعة ، أو صدر منهم إحسان شهدوا في ذلك الواحد المنّان .
حكي عن الواسطي رحمه اللّه: أنه لما دخل نيسابور سأل أصحاب أبي عثمان بماذا كان يأمركم شيخكم ؟ فقالوا : كان يأمرنا بالتزام الطاعة ورؤية التقصير فيها . فقال : أمركم بالمجوسية المحضة ، هلا أمركم بالغيبة عنها بشهود مجريها ومنشئها انتهى.
قال القشيري رضي اللّه تعالى عنه : أراد صيانتهم عن الإعجاب ، ودلالتهم على الآداب انتهى .
فضمير قطع يعود إلى الحق سبحانه وتعالى ، والسائرين والواصلين مفعول به.
واعلم أن السائرين في كلام الشيخ هم القسم الثاني الذين فرحهم بالطاعة من حيث إنها عنوان القبول ، ولا يلزم من الفرح بها رؤيتها ، إذ قد يفرح بها من حيث إنها منة من اللّه ويقطع رؤيته عنها من حيث اعتماده على اللّه ، والواصلون هنا هم القسم الثالث الذين هم فرحهم باللّه دون شيء سواه ، واللّه تعالى أعلم هذا آخر الباب السادس ، وبه انتهي ربع الكتاب.
وحاصلها : علاج القلوب ، وعلامة موتها ومرضها وصحتها واستمداد أنوارها واتصال وارداتها حتى تغيب عن شهود أعمالها وأحوالها وتفنى عن دائرة حسها باتساع فضاء شهودها ، وفي ذلك شرفها وعزها ، وفي ضد ذلك وهو رؤية المخلوق والركون إليه ذلها وهوانها .