طريق الصوفية أوله إيمان ثم علم ثم ذوق ، والإيمان بطريق الصوفية أصل كبير :
قال سيد الطائفة أبو القاسم الجنيد قدس الله سره : التصديق بطريقنا هذا ولاية .
قال السهروردي : لأن الصوفية تميزوا بأحوال عزيزة وآثار مستغربة عند أكثر الخلق لأنهم مكاشفون بالقدر وغرائب العلوم وإشاراتهم على عظيم أمر الله والقرب منه والإيمان بذلك إيمان بالقدرة ولهم علوم من هذا القبيل فلا يؤمن بطريقتهم إلا من خصه الله تعالى بمزيد عنايته فالمتشبه صاحب إيمان والمتصوف صاحب علم لأنه بعد الإيمان اكتسب مزيد علم بطريقهم وصار له في ذلك مواجيد يستدل بها على سائرها ، والصوفي صاحب ذوق فللمتصوف الصادق نصيب من حال الصوفي ، وللمتشبه الصادق نصيب من حال المتصوف .
قال : وهكذا سنة الله تعالى جارية أن كل صاحب حال له ذوق فيه لا بد أن يكشف له علم بحال أعلى مما هو فيه فيكون في حاله الأول صاحب ذوق وفي الحال الذي كوشف به صاحب علم وبحال فوق ذلك صاحب إيمان . ثم قال بعد كلام طويل : الصوفي في مقاومة الروح صاحب مشاهدة والمتصوف في مقاومة القلب صاحب مراقبة ، والمتشبه في مقاومة النفس صاحب مجاهدة ومحاسبة ، فتكوين الصوفي بوجود قلبه ، وتكوين المتصوف بوجود نفسه ، والمتشبه لا تكوين له لأن التكوين لأرباب الأحوال والمتشبه مجتهد سالك لم يصل بعد إلى الأحوال ، والكل يجمعهم دائرة الاصطفاء في قوله تعالى {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} قال بعضهم : الظالم يجزع من البلاء ، والمقتصد يصبر عند البلاء ، والسابق يتلذذ بالبلاء ، وقال بعضهم : الظالم يعبد على الغفلة والعادة ، والمقتصد يعبد على الرغبة والرهبة ، والسابق يعبد على الهيبة والمنة ، وقال بعضهم : الظالم : صاحب الأقوال ، والمقتصد صاحب الأفعال ، والسابق صاحب الأحوال . وكل هذه الأقوال قريبة التناسب من حال الصوفي والمتصوف والمتشبه وكلهم من اهل الفلاح والنجاح . والمتشبه بالصوفيه ما اختار التشبه بهم دون غيرهم من الطوائف إلا لمحبته إياهم وهو على قصوره عن القيام بما هم فيه يكون معهم لموضع إرادته ومحبته ، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المرء مع من أحب " ، فقال أبو ذر : يا رسول الله الرجل يحب القوم ولا يستطيع يعمل كعملهم قال : أنت يا أبا ذر مع من أحببت ، قال : فإني أحب الله ورسوله ، قال : فإنك مع من أحببت " قال الشهاب السهروردي : جاء فتى إلى الشيخ أحمد الغزالي بن أخي حجة الإسلام يريد منه أن يلبسه الخرقة فأرسله إلى شيخنا أي والظاهر أنه عمه أبو النجيب ليذكر له معنى الخرقة ، فجاء إليه فذكر للمبتدي شروطها وآدابها وحقوقها ، فجبن الرجل عن ذلك ورجع للغزالي فاستحضره وقال له : ما ذكرته صحيح ، ولكن إذا ألزمنا المبتدي بذلك نفر وعجز عن القيام به ، فنحن نلبسه الخرقة حتى يتشبه بالقوم ويتزيا بزيهم فيقربه ذلك من مجالستهم ومحافلهم ، فببركة مخالطته بهم ونظره إلى أحوال القوم ومسيرهم يحب أن يسلك بذلك مسلكهم ويصل بذلك إلى شيء من أحوالهم . قال الشهاب السهروردي : فالمتشبه الحقيقي له إيمان بطريق القوم وعمل بمقتضاه وسلوك واجتهاد لأنه صاحب مجاهدة ومحاسبة كما مر ، ثم يصير متصوفا صاحب مراقبة ثم يصير صوفيا صاحب مشاهدة ، فأما من لم يقصد أوائل مقاصدهم بل هو على مجرد تشبه ظاهر من ظاهر من ظاهر التشبه والمشاركة في الزي والصورة دون السيرة والصفة فليس متشبها بالصوفية لأنه غير محاك لهم في الدخول في بداياتهم ، فإذا هو متشبه بالمتشبه يعزى إلى القوم بمجرد لبسه ومع ذلك هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ، وقد ورد : " من تشبه بقوم فهو منهم " .
الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي.