إنما حرك الحق تعالى عليك النفس ليدوم إقبالك وتوجهك إليه لأن النفس لما غلبت عليها البشرية جرتها إليها ، فهي دائماً تهوي بك إلى أرض الشهوات ، وأنت دائماً تريد أن تعرج إلى سماء الحقوق والواجبات ، هي تريد أن تركن إلى أصلها من عالم الصلصال والطين ، وأنت تريد أن تردها إلى أصل روحانيتها في أعلى عليين ، هي تريد السكون في عالم الأشباح وأنت تريد أن ترقيها إلى عالمي الأرواح ، فهي دائماً تريد التسفل وأنت دائماً تريد الترقي ، فهذا معنى دوام إقبالك عليه ، وسيأتي "لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين".
فالنفس والشيطان نعمتان في الباطن ، إذ لولاهما ما تحركت إليه ولا تحقق سيرك إليه ، ولذلك كان شيخ شيخنا مولاي العربي رضي الله عنه إذا اشتكى إليه أحد بالنفس يقول : "أما أنا فجزى الله عني خيراً ما على فضل الله وفضلها والله ما ننسى جميلها"، يشير لهذا المعنى الذي ذكرناه وهما نقمتان في الظاهر لمن وقف معهما وحجب بهما .
والحاصل : أن النفس والشيطان والدنيا والناس ، قواطع لمن قطعوا به الطريق ، موصلات للحضرة لمن وقف للتحقيق وسبق له من الله التوفيق ، والنفس أصعب من الشيطان لأنه عدو متصل وأنت به شفيق ، فهي أقبح من سبعين شيطاناً في قطع الطريق .
وذكر أبن القسطلاني عن أحمد بن سهل رحمه الله انه قال :
أعداؤك أربعة :
أولها : الدنيا ، وسلاحها لقاء الخلق ، وسجنها الخلوة
الثاني : الهوى ، وسلاحه الكلام وسجنه الصمت
الثالث : الشيطان ، وسلاحه الشبع ، وسجنه الجوع
الرابع : النفس ، وسلاحها النوم ، وسجنها السهر.
وقد ذكر هذه القواطع الشيخ ، فذكر أولاً الدنيا ، ثم الناس ثم الشيطان ، ثم النفس لكن ذكرها على وجه توحيدي لم يذكرها على أنها سوى أو قواطع ؟
وإنما ذكر أسرارها وحكمة وجودها ، فلله دره ما أشد معرفته بالتوحيد وأسرار التفريد ، نفعنا الله بذكره وخرطنا في سلكه آمين .
وحاصلها : ذكر غاية النعميم ، وهو شهود نور وجهه الكريم فمن تحقق به فلا تعتريه أحزان ولا هموم ، ثم ذكر القواطع التي تقطع التي تقطع عنه وهي الدنيا ، وما يتعلق بها من رياسة وعلم غير نافع وجاه وغيره ، والخلق وما يتعلق بأذيتهم ، والشيطان والنفس ، لكن ذكرهم على وجه التحقيق لاعلى وجه التشريع ، فإذا تخلص من هذه القواطع في الحس أفضى إلى شهود نور عظمة ربه في تجلياته ، فيتواضع من الأشياء كلها لمعرفته فيها .