تناول مفكرو الإسلام الحرية كل حسب منطلقاته المعرفية فعلماء الكلام من جهتهم حددوا حقل بحثهم ضمن نطاق ما هو سياسي ـ عقائدي منسجمين بذلك مع متطلبات عصرهم المفعم بكل أشكال الصراعات الاجتماعية. وأما الفلاسفة فقد انحازوا إلى الحقل الطبيعي “الفيزيقي” باحثين وضمن حدود العقل والمنطق عن مناسيب الحرية ـ القهر في أصل خلقة الإنسان ووجدوه الطبيعي .
أما مع أهل الله “ الصوفية” فقد تناول البحث عن حرية الإنسان طرق جديدة سبرت معها أغوار طبقات النفس بنوازعها وأهوائها واقتحمت عوالم الروح بأسرارها وخفاياها إنها حرية أخلاقية عملية تعنى بالدرجة الأولى بضبط شهوات النفس مع السعي الحثيث لبلوغ درجات العبودية القصوى لله تعالى والتي هي وجه من أوجه حرية الإنسان من حيث أنها انعتاق تام من رق الأغيار والموجودات وتمكن من أسرار كيمياء السعادة الأبدية.
فهذا الإمام الشافعي يرى أن الخيار العاقل الحكيم تُرجمان للجبر الذي هو أساس الأسس في الكون والطبيعة والمجتمع وحياة الإنسان والحقيقة أن الجبر الإلهي قيمة عليا تأتي لصالح الإنسان دونما إلغاء لخياره المُتماهي مع حكمة الخالق والاختيار غير الحميد للإنسان مجافاةً للناموس وتمرداً على قوانين الحق في الكون قال تعالى:«ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها» ( الشمس: 7-8)هذا هو الجبر أما الخيار فقد جاء استتباعاً في قوله تعالى:« قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها » ( الشمس 9- 10) ومنهج أهل الله «الصوفية» هو تزكية النفوس وإصلاحها .
واستمد أهل الله” الصوفية “ مفهوم الحرية من الكتاب والسنة وهم يرون أن الإنسان لا يكون حراً بالمعنى الحقيقي للحرية إلا إذا ارتفع فوق شهواته وأهوائه بإرادته أي بفعل حر وهم يعيبون على الإنسان تمزقه الروحي بين اللذة والألم فالإنسان يفرح حين تقبل علية الدنيا بأسبابها وقد يحدث أن تزول عنه هذه الأسباب على الرغم منه فسيتألم لذلك أشد الألم وتصبح حياته بين تعاقب الفرح والألم عذابًا نفسيًا لا يطاق. ولو سكن الإنسان منا وثبت فلم يشتد فرحه بما يقبل عليه من أسباب الدنيا وخضع لحكم وقته كما يقول الصوفية لم يحزن قط لوجود زوالها عنه وهذا هو المعنى المشار إليه عند أهل الله « الصوفية» في قوله تعالى: لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ (الحديد: 23)
ويجعل الجنيد البغدادي تحرُّر الصوفي من كلّ ما يسترقه - من خارج ومن داخل- خطوة أولى على طريق السلوك.. يقول معرّفا التصوّف بأنّه: “تصفية القلب عن موافقة البريّة ومفارقة الأخلاق الطبيعيّة وإخماد الصفات البشريّة ومجانبة الدواعي النفسانيّة ومنازلة الصفات الروحانيّة والتعلّق بالعلوم الحقيقيّة واستعمال ما هو أولى على الأبديّة والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله على الحقيقة واتباع الرسول في الشريعة”
الحرية كما يعرّفها القشيري هي: “أن لا يكون العبد تحت رق المخلوقات ولا يجري عليه سلطان المكونات، وعلامة صحته: سقوط رؤية التمييز عن قلبه بين الأشياء” ولأن طريق أهل الله وسلوكهم يبدأ بالمحبة ويعتمد عليها وهي أساس وركن مكين في السير إلى الله فإن ما توجبه المحبة من “انتفاء المباينة” يأتي بوصفه علامة لصحة تحقق العارف بالحرية وهو “سقوط رؤية التمييز” وهنا تصبح بين المحبة والحربة علاقة جدلية في التجربة الصوفية وهو ما يشير إلى أن المحبة والحرية وجهان لحقيقة واحدة عند أهل الله.
لقد تعامل الصوفية مع الحرية على أنّها نتاج جهد ومجاهدة وليست معطى إنسانيّاً، وعلى أنّها «حالة معاشة» تتحقّق في جدليّة مع العبودية لله .. فالإنسان يتحرّر بمقدار عبوديته لله: كلما تحقّق بالعبوديّة الخالصة لله يصبح حراً مخلَّصاً من كلّ ما سوى الله حتى من نفسه وفي المقابل إن حقّق حريته من نفسه ومن الأغيار أصبح عبداً محضاً لله
والتجربة الصوفية يمكن القول أنها إنها تجربة محبة من حيث هي تجربة حرية كما إنها تجربة حرية من حيث هي تجربة محبة ومن ثم فإن ما نجده في تعريف الحرية بـ “أن لا يكون العبد تحت رق المخلوقات ولا يجري عليه سلطان المكونات” لا يعني مفارقة الذات للعالم مفارقة قطعية وإنما يعني قدرة الذات على مفارقة ما يفرضه عليها نظام العالم الخارجي بحيث لا تصبح العلاقة التي تتم بين الذات والعالم في إطار ما يقوم عليه نظام الألفة والعادة الذي يتبعه الإنسان في حياته اليومية فالإنسان في علاقته بالأشياء في إطار نظام الألفة والعادة إنما يتجه نحو الأشياء بدافع الضرورة المتعلقة بنزعاته ورغباته الغريزية الحسية أو بدافع المصلحة والنشاط العملي المعتاد وفي هذه الحال فإنه يظل أسيراً لما يفرضه عليه نظام الأشياء في استجابته لهذه الدوافع وبالتالي يظل أسيراً لما تحيله إليه الحواس في تفرقة وظائفها الإدراكية ومحدوديتها.
عند أهل الله “ الصوفية “ هناك عبودية باطنة : وهي عبودية معنوية تسترقُّ الإنسان من الداخل ويستسلم لها، بوعي منه وأحيانا في غيبة وعي وهذه العبودية المعنوية تقيّد بأصفادِ الخوف والطمع وجدان الإنسان وإن كان - في الظاهر- متربعاً على عرش إمبراطورية عظمى. فما كلّ حرّ في الظاهر هو حرّ في الحقيقية والواقع وكم من سجين لا يملك حريّة خطوة أو كلمة ومع ذلك يشعر بأنّه يمتلك الكون بأسره لأنّه يمتلك ذاته ويعيش هويته الحقيقية بعيدا عن كلّ تزييف. وفي هذا المعنى يقول أبو علي الدقاق: “أنتَ عبدُ من أنت في رِقّه وأسره فإن كنت في أسر نفسك فأنت عبدُ نفسك وإن كنت في أسر دنياك فأنت عبدُ دنياك”.. أما الفضيل بن عياض فيقول: “ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما” ويستشهد القشيري في هذا السياق بالحديث النبوي الشريف قال صلى الله عليه وسلم: “تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة (كساء أسود مربع من خزّ أو صوف)”
وأيضا في إطار التحرر من الشهوات الباطنة والذي يؤدي وظيفة اقتصادية واجتماعية، ما حدث لإبراهيم بن أدهم، قيل له: “ إن اللحم قد غلا، فقال: أرخصوه. أي لا تشتروه. وأنشد في ذلك:
وإذا غلا شيء عليَّ تركته
فيكون أرخص ما يكون إذا غلا”
فالإنسان إذ يتوخى ما يحقق لذاته نوعاً من الحرية في علاقته بالعالم لا يفارق العالم مفارقة قطعية، وإنما يفارق فيه دائرة المألوف والمعتاد، ليدخل مع الموجودات في علاقة من نوع خاص يقوم على أساس من الحرية والمحبة معاً، فهو يفارق المستويات السطحية في صورة الكون والحياة من حيث يتغلغل في أعماق كل شيء في الكون والحياة.
ويرى أهل الله “ الصوفية “ إنّ العبودية لله هي الدرب الأوحد للحرية الإنسانية في المنظور الصوفي، فلا يُحرّر الإنسانَ حقّا إلا توحيدُه لله تعالى. لقد أعطى الصوفية بُعْدا “ معيوشاً” للتوحيد الإلهي وجعلوه مرجعاً ومعياراً للحرية الإنسانية.
و العلاقة الجدليّة بين عبوديّة الإنسان لله وبين حريته هي مجال لقاء وإجماع بين الصوفيين على اختلاف مشاربهم الذوقية وعلى تعاقبهم في الأجيال منذ بداية ظهور النص الصوفي وإلى اليوم يقول الجنيد البغدادي:” لا تكون عبد الله بالكليّة حتى لا تُبقي عليك من غير الله بقيّة” ويقول أيضاً: “لا تكن عبد الله حقا وأنت لشيء سواه مسترقّاً”، ويقول أيضا: “ إنك لن تكون له على الحقيقة عبدا وشيء مِمَّا دوّنه لك مُسْتَرقٌ، وإنك لن تَصل إلى صريح الحرية وعليك من حقيقة عبوديته بقيّة. فإذا كنتَ له وحده عبداً، كنت مِمَّا دونه حُرّاً”
ويؤكد المفكر الإسلامي طه عبد الرحمن أن ترشيد مفهوم الحرية بما ينسجم مع ما أسماه المحاضر بـ«قوانين الوجود الإنساني» ومنها: قانون التناسي ومقتضاه أن من نسي الحق تعالى من نفسه استحق نسيان الحق له مبرزا أن طلب الحرية بغير طلب الله يؤدي إلى نقيضها ليغدوا عدم التدخل تدخلا وعدم التسلط طغيانا والمشاركة عزوفا. وقانون التأنيس: ومقتضاه أن الفرد لا يكون له من الوجود الإنساني إلا ما يتصف به من أخلاق الفطرة، وهي الأخلاق التي أبرز طه أنها تتسم بثلاث خواص، أولها أن كل الأديان السماوية ذكرتها، وثانيها أن الحق سبحانه وتعالى فطر الناس عليها، وثالثها أنها تعبر عن قيم كونية تشمل الإنسانية جمعاء. وقانون التناهي: ومقتضاه أن قدرة الإنسان تكون دوماً في حالة تعلق بالقدرة الإلهية.
وعند المفكر طه عبد الرحمن مفهوم للحرية مفاده أن “ الحرية هي أن يتعبدك الحق باختيارك وألا يستعبدك الخلق في ظاهرك أو باطنك” مبرزاً أن التعبد لله نوعان: تعبد اضطراري ليس بواسطة الفرائض وإنما بفعل سنة الله في ملكوته التي بمقتضاها تخضع كل المخلوقات لسلطانه القاهر بوعيها أو بغير وعيها، وتعبد اختياري ليس بواسطة النوافل وإنما من خلال تخيير الله لعباده أن يطيعوه ويمتثلوا لأمره أو أن يعصوه بحيث إنه في هذا التخيير يكمن مدلول الأمانة التي حملها الحق للسموات والأرض فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان.
وأهل الله يرون أن الإنسان هو الذي يضفي القيمة على الموجودات بحيث لا يمكن أن تشف عن تجليات الحقيقة بمعزل عنه فإن هذا يعني بالمقابل أن حرية الذات مما هو لبس في الأشياء مرهون بمدى قدرة الذات نفسها على التحرر مما هو لبس فيها هي وهو ما يتمثل في نوازع الغريزة ودوافع المنفعة وعناصر التكوين الحسي والعقلاني في محدودية إدراكها وفي خضوعها لمعاني القيمة السكونية وهو ما يسمى عن أهل الله “ الصوفية “
ومن هنا جاء إلحاح أهل الله “الصوفية” على الخروج من نظام الألفة والعادة وعدم القناعة بما هو ناجز ومعروف “قال رجل لأبي بكر البارزي: أوصني فقال: احذر ألفتك وعادتك والسكون إلى راحتك”
قد أجاد ابن عطاء الله السكندري في التعبير عن معاني الحرية فقال ناصحاً مريده: “ ينبغي لك أن لا تيأس على فقد شيء وأن لا تركن إلى وجود شيء فإن من وجد شيئاً فركن إليه أو فقد شيئاً فحزن عليه فقد أثبت عبوديته لذلك الشيء الذي أفرحه وجوده وأحزنه فقده”
وبهذا يصبح الإنسان حراً بالمعنى الحقيقي للحرية وهذا المعنى من معاني الحرية إيجابياً وليس سلبياً ويضفي على حياة الإنسان معنى سامياً لأنه يجعل الإنسان ثابتاً في معترك الحياة وغير خاضع للتمني أو أحلام اليقظة بل عليه أن يعمل إذا أراد أن يحقق أمانيه ويخرجها إلى حيز الوجود الفعلي وإلى هذا المعنى يشير ابن عطاء الله السكندري بقوله: “الرجاء ما قارنه عمل وإلا فهو أمنية”
وإنما الحرية الحقيقية هي التي عبر عنها ابن عطاء الله وغيره من صوفية الإسلام بأنها ارتفاع الإنسان بنفسه فوق شهواته ونزواته التي يكون عبداً لها.
وإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى من الحرية فقد نعم بالاستقرار النفسي وتخلص بذلك من كل قلق. ولعلك بعد هذا تدرك عمق المعنى في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ تعس عبد الدينار والدرهم” فأنت حر في أن تملك الدينار والدرهم ولكن لا تكن لهما عبداً أي لا تكن عبداً لشهوة امتلاكهما.
عارف الدوش
وعند المفكر طه عبد الرحمن مفهوم للحرية مفاده أن “ الحرية هي أن يتعبدك الحق باختيارك وألا يستعبدك الخلق في ظاهرك أو باطنك” مبرزاً أن التعبد لله نوعان: تعبد اضطراري ليس بواسطة الفرائض وإنما بفعل سنة الله في ملكوته التي بمقتضاها تخضع كل المخلوقات لسلطانه القاهر بوعيها أو بغير وعيها، وتعبد اختياري ليس بواسطة النوافل وإنما من خلال تخيير الله لعباده أن يطيعوه ويمتثلوا لأمره أو أن يعصوه بحيث إنه في هذا التخيير يكمن مدلول الأمانة التي حملها الحق للسموات والأرض فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان.
وأهل الله يرون أن الإنسان هو الذي يضفي القيمة على الموجودات بحيث لا يمكن أن تشف عن تجليات الحقيقة بمعزل عنه فإن هذا يعني بالمقابل أن حرية الذات مما هو لبس في الأشياء مرهون بمدى قدرة الذات نفسها على التحرر مما هو لبس فيها هي وهو ما يتمثل في نوازع الغريزة ودوافع المنفعة وعناصر التكوين الحسي والعقلاني في محدودية إدراكها وفي خضوعها لمعاني القيمة السكونية وهو ما يسمى عن أهل الله “ الصوفية “
ومن هنا جاء إلحاح أهل الله “الصوفية” على الخروج من نظام الألفة والعادة وعدم القناعة بما هو ناجز ومعروف “قال رجل لأبي بكر البارزي: أوصني فقال: احذر ألفتك وعادتك والسكون إلى راحتك”
قد أجاد ابن عطاء الله السكندري في التعبير عن معاني الحرية فقال ناصحاً مريده: “ ينبغي لك أن لا تيأس على فقد شيء وأن لا تركن إلى وجود شيء فإن من وجد شيئاً فركن إليه أو فقد شيئاً فحزن عليه فقد أثبت عبوديته لذلك الشيء الذي أفرحه وجوده وأحزنه فقده”
وبهذا يصبح الإنسان حراً بالمعنى الحقيقي للحرية وهذا المعنى من معاني الحرية إيجابياً وليس سلبياً ويضفي على حياة الإنسان معنى سامياً لأنه يجعل الإنسان ثابتاً في معترك الحياة وغير خاضع للتمني أو أحلام اليقظة بل عليه أن يعمل إذا أراد أن يحقق أمانيه ويخرجها إلى حيز الوجود الفعلي وإلى هذا المعنى يشير ابن عطاء الله السكندري بقوله: “الرجاء ما قارنه عمل وإلا فهو أمنية”
وإنما الحرية الحقيقية هي التي عبر عنها ابن عطاء الله وغيره من صوفية الإسلام بأنها ارتفاع الإنسان بنفسه فوق شهواته ونزواته التي يكون عبداً لها.
وإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى من الحرية فقد نعم بالاستقرار النفسي وتخلص بذلك من كل قلق. ولعلك بعد هذا تدرك عمق المعنى في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ تعس عبد الدينار والدرهم” فأنت حر في أن تملك الدينار والدرهم ولكن لا تكن لهما عبداً أي لا تكن عبداً لشهوة امتلاكهما.
عارف الدوش