الإشارة
كل من صدَّ نفسًا عن إحياء قلبها وعوّقها عن من يعرفها بربها فكأنما قتلها ، ومن قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا؛ لأن المؤمنين كلهم كالجسد الواحد ، كما في الحديث ، ومن أحياها بأن أنقذها من الغفلة إلى اليقظة ، ومن الجهل إلى المعرفة ، فكأنما أحيا الناس جميعًا؛ لأن الأرواح جنس واحد ، فإحياء البعض كإحياء الكل .
وبهذا يظهر شرف مقدار العارفين ، الدالين على الله ، والدعاة إلى معرفة الله ، الذين أحيا الله بهم البلاد والعباد ، وفي بعض الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « والذي نفسُ محمدٍ بيده لئن شئتُم لأُقسِمَنَّ لكم : إنَّ أحبَّ عبادِ اللهِ إلى الله الذين يُحَبَّبُون اللهُ إلى عبادهِ ، ويحببون عبادَ اللهِ إلى اللهِ ، ويمشُون في الأرضِ بالنَّصيِحَة » .
وهذه حالة شيوخ التربية : يحببون الله إلى عباده؛ لأنهم يطهرون القلب من دنس الغفلة حتى ينكشف لها جمال الحق فتحبه وتعشقه ، ويذكرون لهم إحسانه تعالى وآلاءه فيحبونه ، فإذا أحبوه أطاعوه فيحبهم الله ويقربهم ، والله تعالى أعلم . وقال الورتجبي : فيه إشارة لطيفة من الحق سبحانه أن النية إذا وقعت من قبل النفس الأمارة في شيء ، وباشرته ، فكأنما باشرت جميع عصيان الله تعالى؛ لأنها لو قدرت على جميعها لفعلت ، لأنها أمارة بالسوء ، ومن السوء خلقت ، فالجزاء يتعلق بالنية . وكذلك إذا وقعت النية من قبل القلب الروحاني في خير ، وباشره ، فكأنه باشر جميع الخيرات؛ لأنه لو قدر لفعل . قال صلى الله عليه وسلم : « نيةُ المؤمن أبلغُ مَن عَمله » .
وفيه إشارة أخرى أن الله سبحانه خلق النفوس من قبضة واحدة مجتمعة ، بعضها من بعض وصرُفها مختلفة ، وتعلقت بضعها من بعض من جهة الاستعداد والخلقة . فمن قتل واحدًا منها أثرَّ قتلها في جميع النفوس عالمة بذلك أو جاهلة ، ومن أحيا نفس مؤمن بذكر الله وتوحيده ، ووصف جلاله وجماله ، حتى تحب خالقها ، وتحيا بمعرفته ، وجمال مشاهدته ، فأثِرِ حياتها وتزكيتها في جميع النفوس ، فكأنما أحيا جميع النفوس . وفيه تهديد لأئمة الضلالة ، وعز وشرف وثناء حسن لأئمة الهدى . انتهى كلامه .
وقوله في النفس الأمارة : ( من السوء خلقت ) ، فيه نظر؛ فإن النفس هي الروح عند المحققين ، فما دامت الطينية غالبة عليها ، وهي مائلة إلى الحظوظ والهوى ، سميت نفسًا ، فإن كانت منهمكة سميت أمارة ، وإن خف عثارها ، وغلب عليها الخوف ، سميت لوامة ، فإذا انكشف عنها الحجاب ، وعرَفت ربها ، واستراحت من تعب المجاهدة ، سميت روحًا ، وإن تطهرت من غبش الحس بالكلية سميت سرًا ، وأصلها من حيث هي نور رباني وسر لاهوتي . ولذلك قال تعالى فيها : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِي } [ الإسرَاء : 85 ] ، فالسوء عارض لها ، لا ذاتي ، فما خلقت إلا من نور القدس . والله تعالى أعلم .